مقاربة سوسيو تارخية لمستقبل الأزمات العربية/ د. محمد ولد جدو

         ما يزال الإنسان إلى اليوم يقف حائرا أمام استعصاءات معرفة كنه دهره المقبل، وهو أمر يعود لعدة أسباب، منها قوة خصوبة ذلك المستقبل. مع ذلك سنحاول هنا تقديم مساءلة منهجية لواقع ومستقبل الأزمات العربية.

         وكمنطلق للقول نشير إلى أن ثمة إحراجات تعترض الكتابة في العديد من القضايا نظرا لأن درجة اللغط ومنسوب السجال فيها وصل إلى مستوى خطير. ولعل موضوع الأزمات ومستقبلها في هذه الخريطة المتفجرة دوما (الوطن العربي)، على قائمة المواضيع التي وصلت حد الميوعة. ثمة إحراج آخر يغذيه الإحساس بمصادرات الكتابة عن العرب بصيغة الجمع في وقت احتد فيه التعارض الحاصل في البرامج السياسية لكل دولة عربية على حدة، وكذلك المسافة الحضارية بين كل بلد عربي وآخر، سواء من حيث درجة التخلف/التطور، أو في قابلية القدرة على قلب الواقع السائد. ومع ذلك سنحاول أن نجعل من بعض مناهج الاستقراء أداة لتدبر نسق الوقائع القائمة، و(استبصار) تلك الممكنة.

         ونحن هنا إذ نقدم اعتذارا لمن نرغب في مطارحتهم هموم الأمة عن ما قد تثيره محمولات الموضوع من سوء فهم ومراجعات قد لا تروق له، نرى أن هناك أمورا ينبغي أن توضع في الحسبان. منها أن ما يقدم عن الأزمات العربية عَرضا واستعادة وتكرارا ليس جهدا ضائعا أو منقطع الصلة بطرق الحل ومسالكه؛ فحيثما لا ينفع الدواء يبقى الطريق الصحيح هو معاودة فحص حالتنا. يضاف إلى ذلك أن أغلب التحاليل المقدمة في هذا المجال قد تراوحت بين مقاربات تقوم على الإطراء والتقريظ وجلد للذات في غير محله.

         كما نهدف هنا إلى تفعيل الرؤية التي تؤمن بأننا بحاجة إلى منهج علمي يتمحور حول محاولة اختراق حجب الضباب التي تفصلنا عن المستقبل لكي نتجنب هول وخسائر الكوارث التي يخبئها لنا المصير المجهول.

          وقبل أن نبدأ في تفكيك بنية الموضوع الذي يبدأ عنوانه بالمستقبل وعلاقته العكسية بالماضي، (ماضي الأزمات العربية)، علينا أن نحاول تحديد بعض المعطيات التي ترشدنا إلى فك رموز المرحلة وتساعدنا في الإبحار صوب مستقبل مجهول لكنّه قادم بشكل أكيد. وهو إجراء يجد مسوغَه في الوعي بالعلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل.

         وعليهفإن بناء هذه الدراسة سينطلق من إرساء قاعدة تاريخية توثق لبعض أحداث المرحلة، ليمر بتقديم، ووصف للظاهرة في صيغتها الراهنة، على أن نختم بمحاولة تقديم استقراء للمصير العربي القريب.

 

أولا. أبنية الماضي العربي:

      "داء العطب قديم"، تلك إحدى المقولات التي يُذكر أن أحد سلاطين مغرب القرن 19 قد تفوه (أو تأوه) بها حين أدرك أنه يهوي باتجاه بركان من الأزمات. ولم يكن المغرب حينها حالة نشاز عن المشرق المترنح هو الآخر بين أزماته الداخلية والخارجية. رغم ذلك يبقى من المؤكد أنه مهما توالت تراكمات الحقب الدالة على أن نزيف هذا العطب قد سلك في أوقات معينة خطا متصاعدا، إلا أنها لن تحجب عن المطَّلِع الدورَ الايجابي الذي اضطلع به العرب في أيام عصيبة لحفظ وتنمية الفكر الإنساني، وفي (الصدع بالحق). وقد حفل التاريخ بنماذج دالة في هذا الاتجاه([1]).

      ولم يقتصر دور العرب على حملهم لتلك الثقافة التي شكلت إحدى الجسور الرئيسية للانتقال من العصر الوسيط إلى الفترة الحديثة، وإنما شكلوا "ذاتا" وموضوعا لرسالة سماوية ذات أبعاد إنسانية عقلانية فذة. لكن العقل العربي سرعان ما كف عن التجديد، حين تمكنت الخرافات وأهواء الحكام من هزيمته.

ظهرت بدايات المرض العضال لقوى "الذات العربية" المادية والروحية، حين اكتشف الآخر أن الدولة العثمانية "مريضة"([2]). وهو ما يعني تلقائيا - بحكم التداخل بين ما هو إسلامي وعربي- أن العرب قد حملوا فيروس الداء نفسه. وهكذا بدا أن نظام "الحياة العربية" قد انطوى على مظاهر لأزمات بنيوية حادة. هذا ما يمكن أن يوحي به منطق حركة أمة أُثخن ماضيها الحديث والمعاصر بالهزائم والجراح.

وقد مَثَّلَت كل من الأندلس وفلسطين وحربِ الخليج مصائب جارفة للعرب والمسلمين، حيث مست الفاجعة كلَّ شيء؛ بدْءً من الدين والإنسان والأرض.. وكل تلك المصائب دون استثناء ذات مصدر وسبب مزدوج: (داخلي وخارجي)([3]).

ولأن اتجاهنا هنا هو نحو المستقبل، فسنكتفي بتقديم (كرونولوجي) لبعض نماذج الأزمات العربية الداخلية والخارجية، التي عرفتها المنطقة خلال النصف الأخير من القرن العشرين، وذلك على النحو التالي:

 

1

§        المرحلة الأولى:1948-1962: نكبة فلسطين، والعدوان الثلاثي على مصر..

§        المرحلة الثانية: 1962-1967: نكسة حزيران، وحرب اليمن، وحرب الرمال...

§        المرحلة الثالثة:1979-1986: الحرب العرقية الإيرانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان..

§        المرحلة الرابعة: 1986-2000: الوجود الأمريكي في الصومال، وأزمة موريتانيا والسنغال، والهجوم الأمريكي على العراق..

§        المرحلة الخامسة:2000- 2009: إعادة احتلال العراق، و(استشهاد) أبرز رموز الفكر الإسلامي/العربي، واجتياح أثيوبيا للصومال..

2

على مستوى الفتن الداخلية يمكن التأكيد على أن الأزمات قد رافقت العرب من زمن القبيلة إلى مرحلة المدينة والدولة. وبأن المحن والنوائب العربية ليست محصورة في الحروب وهزائمها وخسائرها، بل تمتد إلى غيرها من مناحي الحياة. ومع إدراكنا بأن الأزمة العربية معقدة ومركبة، وأنه قد تداخلت وتشابكت فيها الأسباب الفكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، الموروثة والمحدثة، الظاهرة والخفية، الخارجية والداخلية، إلا أن العامل السياسي فيها بقي أكبر حدة.

في هذا السياق يقدم أحد الباحثين تلخيصا مركزا لظاهرة العنف السياسي في البلدان العربية المعاصرة، مستنكرا ومدونا "حوادث موت مطردة كانت ديارنا فناء وفضاء لتفاصيلها الدموية: حروب أهلية (...) بلغت من التدمير والإفناء عتيا، تواجه فيها المسيحيون والمسلمون في لبنان والعرب المسلمون وغير العرب (غير المسلمين) في السودان، والعسكر والإسلاميون في الجزائر، والماركسيون في اليمن. ولم تكن حصيلة هذه الحروب أقل من المليون ونصف المليون من القتلى"([4]).

     تلك هي بعض جوانب ومنعطفات ظاهرتنا. وبحكم أن منطق هذه الأخيرة يقوم على التصاعد والتداخل الدائم بين أزمنتها، يغدو من المفترض بنا أن نسارع إلى طرح سؤل واقعها الشاخص.

 

ثانيا. راهن الأزمة:

      يعبر الواقع العربي عن تكاثف معقد لخطوط خريطة من عوامل ومظاهر الخلل الاقتصادي والسياسي والثقافي.. ذلك ما يشهد به واقع الحال، وتقره العديد من الدراسات.

    يمثل العامل الاقتصادي أحد أبرز أوجه ومحركات الحالة الدراماتيكية لعرب اللحظة، حيث (يشكل انتشار الفقر بمختلف مظاهره، من الجوع والظمأ والحرمان والمرض والجهل والتشرد وإهدار الكرامة والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي..)([5])، الجزء الدائم من واقع غالبية عرب اليوم.

   بدون ريب أن هذا الاستشهاد يحتاج إلى استدراك يأخذ في الاعتبار التباينات الحاصلة بين الدول. هنا ينبغي أن نستحضر أن العالم العربي يمكن تقسيمه إجرائيا إلى دول أزمات وتخلف تقني، وبين دول خليجية. فعلى المستوى الأول تفيدنا دراسة صادرة سنة 2005 أن عدد الفقراء في الوطن العربي قد تجاوز70 مليونا([6]). وبحسب الإحصائيات والمؤشرات المعطاة من قبل أحد تقارير التنمية الإنسانية العربية، فان حالة العالم العربيتجسد أعلىمعدلاتالبطالةفيالعالمأجمع([7]).

      إجمالا يمكن القول أن اكتناه حقيقة هذا النوع من الدول يكشف عن أن حدة مكابدة الحياة تزداد يوما بعد أخر على واقع هذه الدول. ورغم حدة المأساة التي تكابدها شعوب هذه الدول، ورغم تعدد مساعدات المؤسسات الدولية ودقها لناقوس الخطر بشأن هذه الظواهر التي يتزايد فتكها بالجسم العربي، إلا أن غالبية الحكومات المعنية قل ما اعترفت بالواقع الاقتصادي العسير وتعاملت مع تغيره بصدق وجدية. وإذا ما ثبت أن أغلب هذه الحكومات هي ظلال لفساد هيكلي شامل، وأن الفساد يشكل إحدى أخطر الآليات الاجتماعية والسياسية المولدة للفقر في المنطقة([8])، يغدو الطموح إلى حل هذه المعضلات ضمن ما لا يأمل الوصول إليه قريبا.

      هناك استدراك آخر يمكن أن نقر من خلاله بوجود مفارقات وتفاوتات داخل هذه الدول. ذلك أن إلقاء نظرة فاحصة على التذبذبات الجارية على مستويات وأنماط الحياة في الساحة المدروسة، يكشف عن أن ابرز الإكراهات التي تضغط بثقل حاد، مثلا، على غالبية المصرين والمغاربة واللبنانين والاردونين هي هموم تقريب نمط عيشها من النموذج الغربي([9]). مقابل ذلك يمكن أن يلاحظ بأن الذين يتجولون الآن في شوارع مدينة مقادشو.. يتضورون جوعا، وأن الأغلبية هناك تكابد من أجل أن تبقى على قيد الحياة. مع ذلك  تشترك هذه الدول في كونها مخازن لليد المهنية الرخيصة، وفي كونها أوطانا لأجيال تحترق من لهب البطالة، وفي امتهان بعضها لأنماط من الاقتصاد (الوسخ) وفي إدمان بعضها على سياسية (التسول)([10]). ويبقى الأخطر في هذا الاتجاه، هو أن تزايد مآسي الفقر يؤدي حتما إلى تنامي الأحقاد لدى جزء كبير من أفراد المجتمع اتجاه أنظمته الرسمية وباقي المجتمع.

     على مستوى الحالة الخليجية يثير الحديث نوعا من الإحراج، نظرا لتفاوت ما ينجز عنه- حديثا من كتابة عربية- بين ملامسات خليجية تجامل نفسها وأخرى تتملق دوله من الخارج، وبين أخرى تفوح منها رائحة الحقد والحسد. غير أن اقل ما يقال عن هذه الدول هو أنها قد استغنت بنفطها –الذي تواصل أثمانه ارتفاعاتها المتواصلة-عن هبات وصدقات الشرق والغرب، وشيدت بعائداته صروح عمارة حياة رفيعة. حتى وان قيل أن الشخصية الخليجية تؤثر حياة الترف والاستهلاك على البذل في سبيل القضايا الحيوية للأمة([11]).

     إضافة إلى هذا التعارض الحاصل في المرجعيات الواصفة للحالة الخليجية، يمكن أن نقدم استدراكا وتوفيقا لهذا التجريد من خلال الإحالة إلى الواقع العياني لهذا الإنسان الدال على أنه ما تزال تتجاذبه قوى الوعي التقليدي وقوة الانذهال بسلع الغرب.

       سياسيا، تأكد أن الجزء الحساس من الراهن العربي، هو نتيجة هزائم مريعة ما تزال هذه الأمة تترنح في مهابطها حتى الآن، يوم انهزم العرب أمام الاحتلال الغربي عند ملتقى القرنين 19و20([12]). وتواصلت الهزيمة واحتدت آلامها وخسائرها في فلسطين والعراق ولبنان... وكما هو حال لبنان تحتل إسرائيل، حاليا، جزء من الأراضي السورية والاردونية، وتفرض وصايتها على جزء من التراب المصري. عموما يشكل الاحتلال الراهن لفلسطين والعراق جراحا نازفة في قلب الجسد العربي. لكن ما هو أسوء للعرب هو أن يتواصل سقوطهم من حسابات القوة الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما تعززه عدة استشعارات. فبحكم أن موازين القوة في المنطقة لم تعد رادعا، بعد تدمير العراق، بل أصبحت مغرية بالاستهداف من قبل إسرائيل، إلى حد يمكن القول بموجبه أن ما تقدمه إسرائيل من الفاظ السلام ومن وقت، دون أن تسفك فيه دماء العرب، هو من باب الشفقة، أو من باب مجاملة الضمير العالمي.

       يشكل العنف والتحرش الأمريكي بالعرب، هو الأخر، إحدى تجليات الواقع المدروس بعد أن أصبحت قوة ذلك العنف تتمثل للعرب، ولقوم آخرين، إخطبوطا يضرب بأجنحته مختلف المناطق الحساسة للعرب. في هذا السياق، المتميز بنزع المهابة من قلوب أعداء العرب وتغولهم عليهم، تبين أن الدول العربية باتت واقعة مابين دول محتلة، وأخرى أخذت موقعها الدائم بصفتها حليفا استراتجيا لأمركا([13])، وبين الخائف والمضروب والمحاصر والمعرض للتهديد والابتزاز.

      المهم في هذا السياق هو أن أغلب الأنظمة العربية قد أخذت مواقعها في صفوف دعاة الرضوخ للأمر الواقع. ومن البداهة أن نقول أن تفضيل تلك الأغلبية لهذا الاتجاه يعني أنها قد اختارت أن تريح نفسها وأن تجنبها المخاطر. وبالنتيجة يمكن القول أن البيت العربي يعاد الآن ترتيبه من قبل مراكز خارجية، بدا أنها هي التي تتحكم في تعقيد وتبسيط خيوط أزماته. تلك أمور يشهد لها واقع الحال ويزكيها واقع أن العديد من الأنظمة العربية قد تعودت على أن تنتظر أوقات، غير محددة، وأوامر في تمفصل سياسياتها، حتى تقرر موقفها طبقا لاستشارات ومواقف أمريكا وإسرائيل([14]). ولم يعد غريبا أن يرى العالم الولايات المتحدة وهي تسوق غالبية العرب إلى حيث تريد.

      يوجد في مقابل هذا الحلف معسكر يرفع لواء المقاومة. ذلك هو الاتجاه الذي ينعته البعض بأشراف الأمة وبالقلة التي تحمل هم أمة في أوقات ضياعها، والأحرار الذين يحاولون غسل عار أمتهم في زمن تخلت فيه الأخيرة عن كثير من كبريائها ومقدساتها. على وجه التحديد يمكن التأكد من أن هناك حركات تحمل السلاح وتضرب به المحتل، إلى جانب دولتين عربيتين لا تزالان تلوحان بحقهما في المقاومة.

     وينبغي أن يستحضر في هذا السياق، أيضا، أنه إذا كانت العقود الأولى من عمر الجامعة العربية قد تميزت بحرص أغلب زعمائها على إظهار حد من التوافق فيما بينهم، فإن نهاية تسعينات القرن العشرين، قد أذنت بدرجة جديدة من تشرد الدول العربية في اتجاهات يكاد يفقد فيها كل رئيس عربي اتصاله بالبقية، حدا وصل بالأغلبية إلى القول بوجوب رمي رفات جامعة لم تعد محل أحترم أحد في العالم([15]). أما محرك ومظهر هذا التنافر، فيمكن اختصار أولاهما في التهالك على إرضاء الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتجلى الثاني من خلال المغالطة في تعين الخصم والصديق الحقيقيين.

 

3

      ثقافيا، يبدو أن أهم ميزة للثقافة العربية هي أن العرب ما يزالون مطالبين باستيعاب مسار الحداثة المعاصرة من أجل أن تتيسر لهم إمكانية تبيئتها محليا([16]). تلك حقيقة بدا أن لها جذور كامنة في التجربة العربية، وأخرى مرتبطة بغرب مولع بإحاطة الأمور الحيوية بالرموز السرية. أما العرب فلا يزال ولعهم منصبا على وسائط وعناصر تخاطب الناس بنشوة كاذبة، ويقتاتون على ثقافة مبنية على الزيف والتخيل، وتفضيل الخطابة على الكتابة والقول على الفعل. تلك بعض أصول أزمة تفرع عنها جذر آخر يتمثل في التدهور المريع الذي يشهده التعليم والإنتاج الثقافي في الوطن العربي، حدا وصلت فيه صراحة بعض المهتمين بالموضوع إلى الإعلان عن إفلاس مختلف المناهج التربوية وأجتزهما المفهومية والمادية في المنطقة([17]).

         الآن وبعد أن انهارت بعض عناصر الثقافة الأصلية، إلى حد ما، وأصبحت شبكات الإعلام والانترنت هي التي تشكل مرجعية وصانعة شخصية وثقافة أجيالنا الرخوة والمائعة)[18](، لن يكون من المستغرب أن يقل الإقبال على الفكر الملتزم، وأن تضعف بعض القيم الروحية،وأن تتواصل الإصابات الفادحة الموجهة إلى بنية الثقافة العالمة والمقاومة إسلاميا وعربيا. ورغم تصاعد مؤشرات الوهن العربي إلا أن ذلك لم يحسم بعد الصراع الدائر بين القائمين على تجديد آليات القوة والمواجهة العربية مع الخارج ودفع  جور الحكام، وبين المطالبين بالتخلي عن هذا النمط من المقاومة)[19](.

ليس المقصود هنا طبعا، أن نتصيد عيوبنا كعرب، وإنما المهم أن نعي نقاط ضعفنا، كسبيل لتقويتها، أو تعويضها. وهي مواقع لا يمكن حصرها نظرا لتعددها ومخالطتها الشخصية العربية في مختلف تمفصلاتها وعقدها. كمثال على ذلك  نشير إلى أن هناك بعض الدراسات التي تؤكد على أن الحاضر العربي يعاني من نقص في عقلية العزة وزيادة في عقلية الوهن([20])، وأخرى حائرة أمام تفسير سلوك الإذعان والامتثال الذي يبديه الناس الأقل سطوة اتجاه أصحاب السلطة في هذا العالم. مع افتراض أن تكون الشعوب تحب، حقا، ما يبدو لها أنه محتوم([21]). قد لا تعترف الأنظمة العربية بأنها ماتزال تعذب شعوبها. لكن ماهو مؤكد، عند البعض، هو أن مضاعفات هذا الفعل ما تزال مستمرة إلى اليوم([22]). أما احتقار قيمة الإنسان في هذا الوطن، فتكفي الإحالة بشأنها إلى الميدان. من هنا يمكن أن نقول بأن شعوبنا قد أصيبت باليأس قبل الإعياء من مقاومة قسوة وجور الحكام. تلك المقاومة، التي يمكن تشبيهها بما يصفه احد الكتاب العرب (بالتأوه والدعاء الصادر عن مريض أو متألم يخفف به عن نفسه أو يعزيها، لكنه يعرف أن آهته أو"صرعاته" ليست تشخيصا وليست علاجا)([23]).

راهنيا يلاحظ خوض عدد من الشعوب العربية لبعض الاشتباكات الدامية ضد حكامها، كممارسة غاضبة تستمد وقودها من الإحساس بالظلم. مع ذلك  تبقى هذه المناضلة غير مقنعة للكثيرين.

في هذا السياق يورد أحد المدونين مقارنة قام بها المفكر ياسين الحافظ، في نص سيرة حياته، بين مجتمعه العربي، والمجتمع الغربي جاء فيها:(في الغرب، كنت أذهل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف! هناك الفرد ديك، وهنا الفرد دودة. هناك حبل سرة الإنسان موصول بالخرافات، هناك الشك والتساؤل والنقد، وهنا التلقين والامتثال...)([24]).

تلك هي بعض معالم الوجود العربي بأزماته وتعقيداته. ولأن محاولتنا هنا تقوم حول طموح تقديم رؤية جديدة لحاضر ومستقبل الأزمة المدروسة، ينبغي لنا أن نسترشد بنماذج من المقاربات التي اشتغلت بالموضوع وحاولت فك شفراته.

 

ثالثا. المقاربات النظرية للازمة:

1.     المسوغات الموضوعية لمقاربات أوضاع الأزمات العربية:

         سيبقى التعامل المنهجي مع القضايا البشرية لازمة حيوية لحل قضاياها الوجودية، مادام أن تبديد أوهام الوعي هو شرط كل عقل باحث عن نفسه([25]). كدليل على ذلك  نشير إلى أن الثقافة الغربية قد أنبنت على النقد الدائم لذاتها([26])بهدف تصويب مسيرتها. والى الآن ما تزال الحداثة الأوربية تعرض من قبل ذويها على (أطباء الحضارة)، وتتعرض لانتقادات حادة من قبل العديد من المفكرين والمثقفين الغربيين([27]).

وبشيء من التجوز يمكن القول أن العرب يحتاجون أكثر من الغرب، في هذا الوقت، إلي هذا النوع من المراجعات الفكرية الشاقة، بحكم أن كل الدلائل تشير إلى أن هناك خلل منهجي في طريقة تعاملنا مع مشاكلنا، كعرب. من هنا انطلقت وتباينت العديد من رؤى المدارس والأطروحات نحو تجريب العديد من صيغ التشخيص لمعرفة السر في يما يبدو أنه توال أزلي للازمات في العالم العربي، ومحيطه الإسلامي. ولئن قلب الأمة فقد فتح طوال القرن العشرين للجراحة الخارجية([28])، وأنفق في ذلك - من مالها- مبالغ طائلة ثمنا لوصفات عدة، وفي كل مرة، كان العلاج هنا يتحول إلى سم، بدا من الموضوعي أن يجد التشخيص المحلي ظروفا ومسوغا للظهور.

في هذا السياق إذن نشأت وتعددت وتباينت العديد من الرؤى والأطروحات التي حاول من خلالها بعض المفكرين والمثقفين العرب أن يمارسوا نقدا ذاتيا بلا مجاملة للنفس العربية. ورغم تعدد وتعارض منطلقات بعض هذه الطروحات إلا أنها تتقاطع معرفيا عند مسألة الإقرار بوجود أزمات عويصة بالأمة.

تلك هي محركات ومبررات معالجات تساءل الذات العربية عن دورها في مصيرها. في نفس السياق أجريت في مناسبات عدة، مقارنات بين التجربة العربية والفيتنامية، وبين العرب وإسرائيل، والعرب واليابان، وبين العرب وفرنسا في التعاطي مع المشكلات المصيرية، وتم الحديث عن أسباب كثيرة للازمات العربية من قبل العديد من المحللين والمفكرين.

2.     نماذج من المقاربات:

       تعود بدايات استشعار أهمية تقديم تشخيص وعلاج لحالة الفوات الحضاري العربي، إلى عدة عوامل ومفكرين. وسيبقى من أولى وأدق المقاربات التي ترصد وتفسر ظواهر الحالة العربية، ما قام به المفكر ياسين الحافظ حين أدار مقارنة بين فعالية الشخصية العربية وإسرائيل من خلال نموذج الحروب التي دارت رحاها بينهما، وسحق فيها العرب. وهي الحروب التي هالت نتائجها هذا المفكر واقتضت منه نظرته الموضوعية لها القول بأنه (كان يمكن لتلك النتيجة أن تكون مجرد هزيمة عسكرية لو أن هناك نوعا من التكافؤ  بين الشعوب العربية وإسرائيل، أما وان إسرائيل اصغر 15مرة من قطر عربي واحد، وتكسب منه المعركة بمثل تلك السهولة والسرعة، فان الأمر يتعذر نعته بهزيمة عسكرية عادية..!)([29]). بعبارة أدق كشفت المقارنة لصاحبها عن أن الأمر اكبر و(أقبح) من هزيمة، وعن رخاوة وهشاشة في الجانب العربي. كان من المفروض، حسب تقريرات الرجل، أن تلقي تلك الهزيمة الأضواء الكاشفة على جميع جوانب الوجود العربي الراهن([30]). لكن الأمور جرت على طريقة معاكسة لما بدا أنه تمنيات لهذا المفكر بشأن قومه.

      وتوالت المقارنات في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال يذكر المفكر قسطنطين زريق، في سياق مقارنة في هذا الاتجاه، أن قواعد الصراع بين العرب وإسرائيل قد أرسيت منذ 1948، على كثرة عددية عربية هائلة، وحشد عسكري هزيل، وتسليح متخلف، وانعدام أو محدودية الخبرة القتالية، وانقسام استراتجي وتشرذم في القيادات، مقابل أقلية عددية إسرائيلية، وحشد عسكري هائل، وتسلح متقدم وخبرة قتالية غزيرة، وهدف استراتجي موحد، وقيادات موحدة([31]).

        ويعاضد هذا النمط من المقارنة مقاربة أخرى أجراها الكاتب المصري محمد حسنيين هيكل عقد فيها الأخير مقارنة بين الهزيمة العربية الثالثة أمام إسرائيل 1973، وهزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ملاحظا أن شروط والتزامات الرئيس الفرنسي آنذاك اتجاه المنتصرين، كانت لها حدود وضوابط وخطوط حمراء وضميرا وطنيا، مقابل ذلك  كان هناك تهاونا وتخاذلا عربيا، في شروط الهزيمة العربية وحضورا وازنا لهواجس وإملاءات حب الحكام العرب للبقاء في السلطة([32]).

       وبقدر ما تعددت المقاربات كثرت الاجتهادات المقدمة على أنها سببا للازمة. هنا يتحدث ياسين الحافظ عن سذاجة وعقد خوف عربية([33])، والعروي عن مشكل ايدولوجي([34])، وقسططين زريق عن نقص في العقلانية والعلم والتكنولوجيا والديمقراطية([35])، والجابري عن خلل عقلي([36])، وفتح الله خليق عن اغتراب ديني([37])، وراشد الغنوشي عن بطش حجاجي وشطح حلاجي وسكرة نواسية([38])، وعبد الله حمودي عن أسس صوفية للسلطة([39]).

       واعتقد من جانبي أن هذه العوامل مجتمعة تشكل جزء من جذور جوهر ما بالعرب من وهن. كما يمكن القول أن تلك التحاليل تقوم بجهد لازم لإجراء عملية تخليص الإنسان العربي من خطر أوهامه وأهوائه وسيطرته عليها، ورفع بعض الأغطية وتقليص جزء من مسافة الأوهام التي تبدو لمعتنقيها مسلمات. كل ذلك لا يحجب كثافة الكتابة الايدولوجية المبنية على الحجب والتبرير، أو تلك المبنية على ممارسة نفاق من نوع منهجي. ولا يهمنا هنا، ما إذا كان انتشار ونمو هذا الكتابة ناتجا عن اعتقاد ساذج أو تضليل أثم، بقدر ما يهمنا التنبيه إلى علاقة هذا النمط الأخير من الكتابة بما تحاط به حاليا بعض الشخصيات (التافهة) من التعظيم والإقبال. حين نعود إلى طروحات المفكرين الذين تم ذكرهم، نجد أن رهان أغلبهم قد تركز على محاولة درس واستيعاب عوامل الأزمة  العربية وتطوراتها.

      ورغم تعالي الصرخات المؤكدة على أن أمور الشعوذة والخرافات([40])، والسحر والصلاح والدجل لاتصلح لأن تكون أسلحة إستراتجية، وتوالي التحذيرات المؤكدة أن الرقص المسعور حول الذات لن يحرر أرضا ولن يطعم خبزا..، إلا أن ذلك  لم يستطع أن يغير من الأمر إلا قليلا. وتلك نتيجة طبيعية طالما وضعنا في الحسبان أننا نتعامل مع واقع تغطيه الأوهام والعقد، وأن أغلب النظريات يخفي، بوعي أو بدونه، جزء من الواقع الذي نشتغل عليه. وان أغلب المجتمعات ترغب على الدوام في إخفاء بعض ماهي عليه وماتقوم به عن كل عين فاحصة.

     يمكن أن نخلص من ما تقدم إلى الإقرار بأن ثمة أمورا غامضة ابتليت بها الأمة ووضعتها على خط طريق طويل من الهزائم أمام الأخر. هناك، أيضا، إشكال أخر يتعلق بما يبدو أنه ضعف-عارض- في المناعة/المقاومة العربية اتجاه موجات الاسترداد والاحتلال. وهي ظاهرة يمكن الاستدلال عليها عبر عدة أمثلة سنؤشر هنا على بعضها، حيث يذكر مثلا:(أنه بينما كان موكب أخر سلاطين العرب في غرناطة ينصرف عن المدينة لتسليمها للأسبان لاحت منه نظرة أخيرة على عاصمة المنطقة من ربوة صخرية عالية وجرت الدموع في عينيه فنهرته أمه قائلة: يحق لك أن تبكي كالنساء، ملكا لم تدافع عنه كالرجال)([41]). أما في العصر الحديث فقد انهارت فيه اغلب بلدان العالم العربي من دون مقاومة تذكر، كما تقدم الحروب العربية الإسرائيلية نماذج جيدة للتدليل على هذه الحالة([42]). وهي أمور لم يعد من المجدي التستر عليها خصوصا انه أصبح بإمكان العالم أن يشاهد كيف تتحول الجيوش العربية إلى أنسجة عنكبوتية عند أول عاصفة آو صدام مع الأخر.

حرب الخليج الثانية والثالثة شهد فيها العالم، هي الأخرى، كيف تداعت أركان الدولة العراقية بسهولة، وكيف انهار جيشه. ومن المؤكد أن الأمر لو كان يتعلق بدولة عربية أخرى لوصلت درجة ضعف الثبات في وجه العدو درجة أكثر خزيا.

ولأن المعنى([43]) يواصل انتحاره على الخريطة العربية منذ زمن غير قصير، لم يعد من المستغرب أن تصل درجة (التفرج العربي) على أشلاء العراق الممزقة وألسنة اللهب والألم التي تحرق الشعب الفلسطيني حد الاستمتاع، والبخل والخوف من وصف أحرار العالم، الذين يحاربون عن دينهم وشرفهم وأرزاقهم بالمقاومين([44]).

على هذا النحو من الفهم للقضايا، بدا أن هناك خللا عربيا في فهم الأمور، و أن أغلب العرب لايفهمون إلا بعد فوات الأوان، وان خطواتهم ستبقى مجازفات يؤدي معظمها إلى الهاوية.فهل أن لنا، كعرب، أن نستشعر خطورة أن نسير على غير هدى؟

 

رابعا. أنواع الأزمات العربية المقبلة:

       ينفرد موضوع استقراء المستقبل بعدة استعصائات على المعالجة الدقيقة. ففيما تقترن أولى هذه الاستعصائات بالمستقبل الكوني عموما، يرتبط الثاني، هنا، بمعضلات الزمن العربي، هذا إلى جانب إشكالات المناهج المتبعة، أو المتاحة هنا، في معالجة الموضوع، يضاف إلى ذلك  عدة عوائق ذاتية تتعلق بصاحب المعالجة. على المستوى الأول ليس ثمة شك في أنه لا توجد أبراج مرشدة يمكن الاستناد عليها لرؤية المستقبل بصورة دقيقة. وهو ما يطرح إشكالات لا حصر لها من قبيل أن علم المستقبليات الذي نحاول، هنا الاستعانة ببعض معطياته لم يستطع بعد أن يخرج من إطار التكهن، فهو عاجز عن الإحاطة بالاحتمالات الأكيدة للحوادث التي ستقع في الفترة الفاصلة بين الحاضر الذي ننطلق منه، وهو الذي نحاول أن نشتغل بتراكماته المعرفية-التاريخية، وبين المستقبل الذي نحاول التكهن بملامحه.

         في أقل تقدير، تعتبر محاولة قراءة المستقبل انطلاقا من معطيات الحاضر، عملا غير مقنع للبعض، نظرا لأن سلوك الإنسان لا يخضع لقانون ثابت بحكم ما تنطوي عليه النفس البشرية من خبايا وعقد وألغاز وحرية، وما يفرضه المجال من متغيرات على الإنسان. تلك بعض مصاعب قراءة ما تزال تعاني من نقص في غياب ضوابط علمية يمكن الاستناد إليها، ومن ندرة ومعضلة المعطيات للازمة لأية عملية تحليل، وافتقاد للنزاهة في بعض المقاربات. نقصد هنا إمكانية أن نطالع منجزا في هذا الميدان دون أن ينبه صاحبه إلى أن الأمر محض اجتهادات/ توقعات. هناك إشكال أخر من قبيل انه إذا كان ماض العرب قد امتنع على الكشف العلمي، فما بالنا بمستقبلهم؟وأنه إذا كانت معرفة وإدارة الغيب/المستقبل قد استعصت على الغرب فما بال العرب؟ السؤل الأخير يجد مسوغه في أننا ندخل اليوم قرنا جديدا حاملين أشيائنا القديمة. كاستدراك على الجملة الأخيرة ننبه إلى أن المقصود هناهو تواصل الفهم البدائي والخرافي والمحاباة للأقوياء على حساب الضعفاء في ثقافتنا. هناك استدراك آخر يمكن أن نشير من خلاله إلى أن الغرب وحده هو الذي يستطيع أن يخبرنا عن مصيرنا لأنه هو العاكف والقادر إلى حد الساعة، على ما يبدو، على رسم خطوط خرائط هذا المستقبل!.

       أن نقر بالمصاعب لا يعني النفي أو التنكر للإعمال التي أنجزها مفكرين وزعماء عرب، نظروا وعملوا للمستقبل برؤية إستراتجية. مع ذلك  يمكن القول أن اغلب الأعمال الأكاديمية المنجزة في هذا الصدد قد رمي بها في الرفوف السفلى لتنتهي صلاحيتها قبل العمل بها، وأن جزء من نظرتنا للمستقبل قد بنيت على غوغائية تقوم على الاستهزاء والاستهانة بالأخر، حدا دفع بأحد المفكرين إلى القول بان العرب أداروا صراعاتهم مع إسرائيل، على امتداد قرن ونصف بهزل يشبه الجد([45]).

        ومهما يكن، فإن من المؤكد أن الحاجة إلى استشراف واستقراء المستقبل تمثل أمرا مهما وملحا لإدراك طبيعة التحولات المتوقعة خلال السنوات القادمة، ورسم اتجاهاتها العامة. لهذا تتجه العديد من مراكز الأبحاث إلى محاولة اختراق حجب الضباب التي تفصلها عن المستقبل، من خلال تلمس بعض الأسانيد التي يفترض أن التأسيس عليها يمكن أن يساعد في تكوين نظرة ثاقبة وعقلانية للمصير الإنساني([46]).

       رؤية المستقبل في الوطن العربي أكثر صعوبة. لكنها الدليل الأساسي على أننا استفدنا من الدروس القاسية التي لقنت في القرن العشرين!. في هذا السياق يبدو بديهيا أن المستقبل العربي يتم الآن إرساء أسسه، شعرنا بذلك أم لم نشعر، وهو ما يستوجب التجهز لهذا القادم والتصرف إزاء احتمالاته المقبلة، عبر التحرر من القراءات الذاتية والتسلح بالفطنة العلمية المتصلة بالتجربة والخبرة والتبصر، وبعد النظر. والقدرة على الحكم الصائب في الظروف الحرجة والمعقدة التي نواجهها في حياتنا الراهنة والقادمة، كي نتجنب الوقوع الدائم في النهايات المحزنة...

     ثمة إحراج، أو التباس أخر أجد نفسي مدعو أكثر من مرة إلى دفعه. يتعلق الأمر بتمحور الموضوع على محاولة تشخيص جزء من علل امتنا في وقت يعبث فيه البعض بجسمها ويزداد فيه جراحها الروحي والنفسي من خلال ايعازات الغرب القائمة على أننا لسنا خير أمة أخرجت للناس([47])، وبأن هناك احتمالات قوية في أن لا تكون العاقبة لنا، وأن لانرث الأرض..! مع ذلك أرى أن هناك أكثر من عامل يسوغ للباحثين العرب الانشغال بالوجه المأزوم. مبررات من بينها تركيز الجهات الرسمية في العالم العربي على الجانب الايجابي لما هو قائم في سياساتها وسعيها لتسوغيه وتفاؤلاتها بالمستقبل..

        تلك بعض الأسس والاستدراكات التي بدا انه من الضروري أن نؤشر إليها. أما التوضيح الأخير الذي أود تقديمه قبل الإبحار نحو عمق الموضوع، فسأقتصره على تقديم نفسي بصفتي لست احد خبراء الأزمات أو محللا استراتجيا أو وليا. لكن بما أن موضوع المقال قد خرج من دائرة أهل الاختصاص، كأغلب المواضيع، بحيث لم يعد نقاشه مقتصرا على أساتذة العلوم السياسية ومفكري علم المستقبليات، بل تعداهم إلى المغنين والتجار..-الذين يحاولون حاليا أن يثبتوا على أنهم المثقفين والأطباء القادرون وحدهم على علاج الأمة، وبما أن أصحاب هذا الاختصاص، واقصد هنا مختصي الدراسات المستقبلية، قد دخلوا علينا مواضيعنا فقد ندب لي كمؤرخ أن أرد بالمشاركة في الجدل الدائر حول المستقبل، مستحضرا في ذلك، أهمية أن نشارك المفكر قسقنطين زريق هاجس(القلق الايجابي على مستقبل الأمة العربية وتاريخها وتراثها، في مواجهة تحديات المستقبل)([48]).

       الآن وقد أن لنا فحص مجموعة من الاحتمالات الواردة على مستوى المستقبل العربي، انطلاقا من أبنية الحاضر ومؤشرات المستقبل، يغدو من الأجدر بنا أن نحاول مفصلة الموضوع على نحو يسمح بأن نتبيين معالم ظواهره.

1.     الملامح الاؤلية لمالأت الوضع السياسي العربي:

      سياسيا، يبدو أن مأساة و(عار) احتلال فلسطين والعراق سيبقيان المنطقتان الأكثر إحراجا في خارطة الألم العربي. على المستوى الفلسطيني تشىء التغيرات المرتقبة بأنه إذا ما تواصل كشف المستجدات الميدانية المقبلة عن أن وظيفة دول الطوق هي حماية إسرائيل، وفرض طوق استراتجي على الفلسطينيين لمنعهم من التنفس ووصول ما يحتاجونه من محاربين وأسلحة ومواد لازمة للحياة، فان النتيجة ستكون وصول إحساس الفلسطينيين بالخذلان وفقدان الثقة بمحيطهم العربي والإسلامي إلى درجة الكفر بفضائهم العربي/ الإسلامي!.

       ثمة سؤل منطقي يطرح في هذا الاتجاه هو:هل يعود استجداء السلام من قبل دول الطوق، وهي البلدان العربية الفاعلة والمحتل بعض أراضيها في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى حب في السلام، أم إلى الضعف وكره في الحرب؟ قد يبدو بديهيا أن نقول أن الدول التي انهزمت عسكريا ونفسيا أمام إسرائيل في حروب 1974،1967..، قد توصلت إلى قناعة تفيد بأنها لا تقوى على الحرب مع إسرائيل، لتتحول الحسابات العسكرية، هناك، إلى حسابات بنكية، وتوجه مدافع الحكومات العربية إلى الداخل. تلك إحدى أبرز رسائل الماضي والراهن العربي إلى  المستقبل. مع ذلك تصر بعض المقاربات على أن الصراع سيبقى مفتوحا على العديد من الاحتمالات. ففي نظر أحد أصحاب هذه الدراسات أن هناك صعوبة في الحديث عن بناء تصور واضح ودقيق للاحتمالات التي يمكن أن تنتهي إليها مسارات الصراع العربي الإسرائيلي([49]). وهو ما يعني استمرار الأمل، عند بعض الأفراد، في أن يرفع العرب وجوههم في العدو مستقبلا. رغم ذلك لم يخيب العرب إحدى افتراضات تلك الدراسة في أن يتواصل تدهورهم وهوانهم أمام إسرائيل كلما اقتربنا من سنة2015([50]).

هل يستطيع العرب أن يتجنبوا نظرة إسرائيل النمطية اتجاهاهم في كونه متخلفين وجبناء؟([51]). يترتب على الإجابة الفورية لهذا السؤل الإقرار بقوة المخزون الإسرائيلي من الأسلحة النووية وغيرها، أما العرب فقد هيأت لهم الأقدار الفرصة، إبان حرب الخليج الثانية، لكي يعلنوا عن دخولهم تحالفا استراتجيا على الأرض، هدفه المشترك والعميق ضرب القوة العسكرية القومية للعراق([52]). كان ذلك  انتحار أخر للمعنى، ورسالة جديدة، من الحاضر إلى المستقبل مؤدوها أن أغلبية عرب اليوم يخافون من حيازة السلاح، وأن معظم من يمتلكه منهم إنما قام بذلك  لعبا ومغالطتا، بحكم أن صلاحيته ستنتهي دون التفكير في استعماله، وأن شراءه يستجيب، أصلا، لمصالح شركات التصنيع الحربي الغربية([53]).

على وقع هذه النهايات يمكن أننحتسب، افتراضا، أن قوى المقاومة الفلسطينية، ممثلة في حماس والجهاد، تمتلك القدرة على تقديم الشهداء وتصنيع أسلحة محلية، و أن تصبر على ابتلاءات النقص في القوة والأموال والأولاد والسلاح ..، لكنها قد لاتستطيع الذهاب بعيدا زمانا ومكانا، في ظل هذه الأجواء. ذلك  أن فلسطين التي تنكر لها اغلب بني جلدتها تواجه مستقبلا احتمالات التهجير الثاني بعد مذابح أخرى قد تكون أكثر لهيبا من سابقيها. هنا تبدو الأمور تنحوا باتجاه أن تفضل تلك القوى المقاومة، أن تستشهد، أو تنتحر حسب تعبير خصومها، على أن تقبل بسلام يخرجها من الإسلام حسب فهمها.

أقول ذلك وكلنا يتذكر كيف تفاوتت ردود فعل الأمة العربية اتجاه مشاهد إحراق مدينة غزة، التي صدمت ومزقت الضمير الإنساني، بين التوسل والتشكي والتشفي والسكون.

الآن وبعد أن أصبح حب السلام جبنا، وليس خيارا استراتجيا، كما يروج له عربيا، ينبغي لنا أن نحد من سرعة اللهث الحثيث وراء الغزاة في وقت(نحتاج فيه إلى بعض العنف والجهاد)([54]).

أما حين يتعلق الأمر بقراءة مستقبل أزمات لا تكف عن الجريان، كما هو حال أزماتنا، خصوصا بعد رفع إسرائيل لدرجة استنفارها القصوى وتلاشي جل الآمال المعلقة، عربيا، على الرئيس الأمريكي براك حسين.

في هذا السياق يمكن أن نقبل من أوبما القول بأنه لا يستطيع أن يغير من المصير العربي شيئا، مادام أن الرئيس الأمريكي لا يستطيع أن يلغي الأنظمة الإستراتيجية لدولته من تلقاء نفسه. مع ذلك  ما يزال العالم العربي يترقب بعض الخطوات الايجابية لصالح قضيتهم في فلسطين من قبل هذا الرئيس. لكن شيئا من الإنصاف هنا يستوجب طرح سؤل: ما الذي يمكن أن يصنعه اوباما لدولة إسرائيلية تعمل بوقود أحقاد دفينة مختمرة في أذهانها. أكثر من ذلك نستطيع القول أن باراك لم يقم إلا بما هو متوقعا من رئيس للولايات المتحدة الأمريكية ( كقتل بعض رموز القوة الإسلامية، وإعطاء إشارة حرب هنا وفرض حصار هناك..). هذا إلى جانب أن توجهات الرجل ما تزال قابلة لاحتمالات عديدة. حيث يحتمل أن تدفع غريزة حب البقاء في البيت الأبيض في اتجاه المزيد من تودد أوباما لليهود، كما أن تجاهل الرجل لقسوة الحياة في بقية العالم العربي، يعد مؤشرا ودليلا على أنه قد نال من العرب مالا يستحق.

من الأكيد أن البعض سيتهمني بالإصابة بمرض المرجفين في زمن السلام، لكن من حقي القول أن التفاؤل وسط المآسي لا يعد دليلا على السلامة العقلية. كما أن لمن يستشرف زمن قادما تلوح في افقه مشاهد الألم، أن يحذر من وقع ما يراه من علامات كوارث آخذة في التشكل.

      وعلى ما يبدو لنا من اتجاه الأحداث نستطيع القول أن تركز عوامل الإغراء في الوطن العربي بما في ذلك  ضعف إرادة المقاومة لدى غالبية قادته، هي التي ترجح احتمال أن يبقى الوطن العربي ساحة لضعفاء يفترسهم أقوياء العالم متى وكيف شاءوا. من المؤكد كذلك أن تخليق الخطاب الغربي الراهن والوصول به إلى درجة التحقيق اتجاه فلسطين والعراق واكونتامو، وإنهاء التواجد العسكري الأمريكي القسري في الوطن العربي، سيدفع بالأمور في غير هذا الاتجاه. أما إذا تواصل انتهاك الغرب لحرمات الأمة العربية ولهث هذه الأخيرة وراء الأول، فان ذلك سيقودنا إلى درجة جديدة من السوء على نحو لا نستطيع افتراض حدوده .

        وإذا تحولنا إلى ميدان عربي أخر تسيل دمائه، هو الأخر، على مرآى من الجميع، كما هو حال العراق، سنجد ما يدعو إلى الاعتقاد بأن العالم العربي يتحرك، في تفاعله مع حركة الزمن، بصيغة مخالفة لحركة بقية الأشياء. وإذا كان من البين أن أزمة الخليج بامتداداتها وتطوراتها اللحظية، تكشف عن أن خط الوهن الصاعد في التعامل مع الأزمات العربية قد ظل يترنح في جانبه العربي بين وقائع المكر الداخلي والطابع المرضي، فإن من المفترض أن يؤدي استمرار النحر الخارجي(الاحتلال) والتناحر الداخلي إلى الانزلاق بالأمة نحو مستويات جديدة من الخراب والفناء بدرجة تجعل مصيرها مفتوحا في اتجاه أزمات أكثر تعقيدا وعاصفية من ما هو قائم..

      إجمالا يبدو الزمن العربي القادم وهو يجري على نحو مالا نريد. في هذا السياق قد تطرح عدة أسئلة من قبيل:أين هو دور دول الخليج، وهي التي تمد العالم بالجزء الأكبر من طاقته النفطية، في الحد من إعصار موت وآلام إخوانهم الواقعين بين أنياب الاحتلال؟ وأي دور سيكون لهذه الدول على مستوى القرار الدولي حين تستنفد ما لديها من النفط، أو يتم الاستغناء عنه؟. قد يجد البعض في أسئلة من هذا النوع، مغالطة أو سذاجة، مادام أنه فهم أنها تعلق أملا على دول ثبت أنها لا تمتلك جزء من سيادتها – بما في ذلك ثرواتها- وهي صفة تشترك فيها مع العديد من الدول العربية الأخرى. لكن قراءة متأنية للأمور تكشف عن أن آليات الأزمات العربية الراهنة والقادمة أعمق واشمل من أن يتحملها طرف عربي منفردا.

        في أجواء هذه المأزق المتصاعدة سنحاول تقديم بعض السيناريوهات الافتراضية الطامحة إلى استقراء طبيعة التحولات المتوقعة خلال السنوات القادمة. ينطلق أولى هذه الفرضيات من قابلية أن يؤدي تراكم أهوال الأزمات إلى استيعاب وتعقل العرب لدروس الهزيمة والنصر. وان تتصدر، في سياق ذلك ، أنوية المقاومة المسلحة والدينية والثقافية، الإسلامية والقومية، الساحة وتبتدع لذلك  طرقا جديدة  قادرة على هز عروش الأنظمة التي تتعارض همومها بمصالح الأمة. الأمر باختصار يعني الثقة والجرأة في العودة- عقائديا- إلى ما كان يعرف بثوابت الأمة. وسيتبين أن إمكانية تشكيل حلقات هذا السيناريو يقتضي بناء جهد جماعي عربي صارم، ورؤية إستراتجية، تخطيطا وتنفيذا، وقلبا لمفهوم معادلة الصراع القائمة، حاليا، على أن أي مواجهة كبرى إنما ينتظر أن يفوز فيها الأقوياء (و أولوا العزم) كل حسب تكوين عضلاته النووية.

وباختصار، نرى أن هذا السيناريو يتطلب أن ينطلق العرب من وعي وممارسة تدرك أنهم يتعاملون مع خصم مستيقظ على الدوام، خصم اثبت انه يتحكم في علاقاته معهم على الدوام. كما سيكون تحقيق فعل من هذا القبيل مشروط بتحول في التفكير والتعامل الرسمي العربي مع مراكز الضغط الراهنة ومراكز التأثير المقبلة.

       أما على صعيد الوقائع/ الشروط الراهنة و(الأفقية) التي يمكن أن تشكل مؤشرا على درجات الإمكان والاستحالة، في هذا الاتجاه، فيمكن أن نشير بشأنها إلى أن ثمة أمورا تفسح المجال في اتجاهات لا تحصى. فمن جهة نجد أن العديد من مراكز العصيان الرسمي العربي للغرب قد أصابها التغير، وقطعت الصلة بما دعته يوما بالأصول لتنساق مع حركة الموج الغربي. ومن البديهي أن انصياع الأنظمة العربية في الوقت الراهن، باستثناء مثنى أو ثلاث، تم بفعل استشعار تلك الأنظمة للثمن الذي دفعه كل من النظام العراقي والسوداني والطالباني...

       هناك مؤشرا آخر ماثل في ما يوحي به اختراق الخطاب الغربي للعقيدة (الإسلامية) الرسمية، حين جرى إقناع عموم المسلمين بأن الجهاد، بما في ذلك جانب الدفع منه، غير موجد أصلا، وصار بذلك فعل الجهاد مذمة وإجراء مرادف لفعل الإرهاب. كبرهان على ذلك  نجد أنه قل من بقي يعترف من المسلمين بوجود تلك الشعيرة، خوفا من أن يقطع رزقه أو عنقه..

ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى مشاركة العرب للغرب في العمل على إكراه شعب غزة على امتثال الإرادة الإسرائيلية، وفي جهده في زيادة عتمة الأنفاق والجدران وإطباقات الأفق على هذا الشعب حتى لايبقى له ملجئ  يأوي إليه. يضاف إلى ذلك  أن إسرائيل باتت تتمتع بوجود مريح وقواعد نشاط في العديد من ساحات العالم العربي، بعد أن غدت علاقاتها بألئك العرب تتعدى التطبيع الدبلوماسي إلى ما يبدو أنه الإيمان بوحدة المصير!.

وإلى جانب ذلك يتعين استحضار التزايد المستمر في مسافات فوارق القوة المادية بين إسرائيل ومناهضيها من العرب. وعليه يمكن (للمتشائمين/ للواقعين) القول انه لم يعد ما يدل على أن هناك شيئا يهدد إسرائيل جديا.

من حيث عناصر القوة المتبقية للأمة، لا نعدم بعض المؤشرات الدالة على أن ثمة حركات، إلى جانب دولتين عربيتين، قادرة على أن تصمد وسط الإعصار. إجمالا نرى أنه بالاستناد إلى طبيعة النفس الطويل والصبر الجميل الذي تتحلى به راهنيها رموز التحدي الفلسطيني واللبناني (حماس الجهاد، حزب الله..)، نستطيع أن نفترض أن تواصل تلك الحركات تقدم الصفوف لحمل لواء المقاومة.

         كل هذه المعطيات تؤشر، إذن، إلى بعض الاستشعارات وتشكل معالم إحدى السيناريوهات المفترضة لمستقبل بعض الأزمات العربية. ولئن الكتابة هنا عن قضايا لا احد يستطيع أن يجزم بما ستكون عليه مستقبلا، يغدو من الأجدر بنا أن نحتاط للأمور بفتح أبواب احتمالات عدة.

ثمة مآل افتراضي آخر يستند إلى أن يشكل دخولنا الحقبة القادمة مجرد عبور سالب ومجاني، ومرحلة نمطية سنجتر فيها الكثير من إشكالاتنا القديمة. كما يمكن القول، على ضوء ما يشىء به منطق وصيرورة الواقع العربي بأبنيته وأخبيته، أن الناس هنا قد استكانوا لما بهم من سوء.

وسط كل هذه الاحتمالات الزاحفة مع القرن الواحد والعشرين تبدو الآمة وهي تواجه عدة معضلات شائكة وتسحق تحت مفعول ما بدا انه ابتلاء قدري لا رجعة فيه، لتصبح بموجب ذلك موضوعا لمفارقات عجيبة وإشكالات عويصة يطرح بعضها بصيغة: كيف نفسر التقاء واستمرار اجتماع النفط والعروبة والإسلام والاحتلال والاستبداد..؟ والى متى يستمر العرب خبرا تراجيديا يتصدر واجهة الأحداث الدولية؟

نتوجه بهذين السؤالين، طبعا، إلى المستقبل، مع محاولة تجنب الاستغراق في محاولة تقديم أجوبة قد لا تبدو مقنعة للبعض. على صعيد الإشكال الأول أرى أن ظهور هذه العناصر مجتمعة لا تجد دلالتها في الصدفة، بقدر ما تجد مغزاها في نتيجة العلاقة الجدلية الناجمة عن التقاء عناصر الإسلام والعروبة والنفط. ولكي لا نشتغل بالأصول عن المآلات أبادر إلى القول بإن هناك احتمالا في أن تقوي جاذبية النفط واحتفاظ الإسلام والفكر القومي العربي بمرتكازاتهما إلى رفع بعض الدول الغربية لدرجة كراهيتها وانتهاكها لحرمات الأمة، عبر عدة آليات من بينها الاستمرار في دعم نظم الجور بالوطن العربي، كما نرى أن هذا السيناريو قد يقضي بأن تصيب أشعة وتأثيرات الاختراعات التكنولوجية والعلوم الإنسانية (الغربية)، ما تبقى من الإجماع العربي في مقتل.

ما يعنيه هذا الاستنطاق الطامح إلى ضبط اتجاه الوقائع هو أننا نرى الأمة وهي تمضي، إلى المستقبل، كجسم تعود الآخر على افتراسه، ونذر نكبات قادمة إلى المنطقة عبر عدة منافذ وعلى أكثر من صعيد. كدليل على ذلك أرى أن درجات التسلح المتصاعد في كل من الجزائر والمغرب لا يبشر بخير على المنطقة، وإلى الجنوب منهما يبدو المجتمع الموريتاني وهو يمضي إلى استكمال صفة الضحية لمقاتلي القاعدة.

        إجمالا تبدو الشعوب العربية وهي واقعة تحت تأثير سحق زمان خارجي وألم داخلي تمارسه اغلب سلطها، ومكر أحزاب سياسية ينتظر أن تتصدرها مستقبلا أحزاب إسلامية، إلى أن يثبت فشل هذه الأخيرة أو نجاحها. وعلى مايبدو، فان احتمال الفشل يبقى هو الأرجح لا بحكم أن هذه العينة من الأحزاب لم تستطع بعد أن تجرؤ على تبنى مشروعية تخولها حمل السلاح للضغط به عند الحاجة، باستثناء حالة كل من لبنان والجزائر وفلسطين، بل لضعفها البنيوي وقابلية اختراقها من قبل نظم الحكم التي تدير دول تلك الأحزاب.

2.     أسئلة مستقبل الأزمة الاقتصادية:

         سبق التنبيه إلى أن الأزمات العربية تعبر عن نفسها على مختلف الصعد وفي كل بلد عربي. فإلى جانب المستوى السياسي، المذكور أعلاه، تتمركز أمامنا أقوى وأعنف تشكل يمكن أن تتخذه الأزمات الاقتصادية المقبلة. هنا تجمع العديد من الدراسات على أن ثمة العديد من الأزمات التي تضرب في عمق البناء الاقتصادي والتنظيمي والاجتماعي للأمة([55]). إن نظاما تلازمه الرشوة واعتماد نظام للتشغيل قائم على معاير القرابة والعمالة، كما هو حال نظامنا، لا يمكن أن يؤدي مستقبلا إلا المزيد من الفوضى الإدارية..

      في هذا السياق يبدو الواقع العربي بأزماته الصادمة نابعا، أساسا، من عدة اختلالات هيكلية في البنية الاقتصادية([56]). وسيبدو من المفارقة أن تظهر بعض الدراسات الميدانية أن دولا مثل المغرب ولبنان والأردن تتقدم على بعض الدول الخليجية في تدبير شأنها الاقتصادي والاجتماعي([57]). لكن متابعة فاحصة للأمور تكشف عن أن جزء من حاصل هذه المقارنة إنما يقوم على نوع من التقدير المبطن لجسامة جهود تلك الدول (الكادحة) مقابل ما تراكمه دول النفط العربية من أموال دون أن تختفي بقع الحرمان الاجتماعي من بلدانها. مع ذلك  يبقى من المؤكد أن ثمة أزمات اقتصادية ستلفح أوجه الأغلبية حتى وإن اختلفت طبيعتها من بلد عربي إلى أخر. ففي الجزائر، حيث يجتمع النفط والغاز والفقر، ومصر والمغرب والأردن.. ، يبدو الهلع من حتمية مستقبل خطير مهيمنا وقائما لعشرات الملاين الباحثين عن الوظائف والمأوى والنقل..([58]).

       في أفق هذا الظرف الضاغط بأزماته المريعة، تتجه بعض اقتصاديات الدول العربية إلى العيش على بعض العقاقير المحرمة و(المكروهة) من خلال اعتمادها على مداخيل التسهيلات المقدمة من قبل بعض المخابرات الغربية مقابل عملها هناك، إلى جانب بحثها عن عائدات استثمارية في التهريب، والصناعة المزورة، وأشياء أخرى. على مقربة من هذه الدول توجد دول عربية تميل، مستقبلا، إلى الارتباط والاعتماد الأبدي على اقتصاد (التسول). ويبقى الأخطر في هذا النطاق أن تستمر دول مثل: الصومال وموريتانيا والسودان واليمن..([59])، وهي تواجه أوحالا ومآزق اقتصادية واجتماعية صعبة يتصدرها الهاجس الغذائي والأمني. كما سيبقى الفرق البنيوي والموضوعي، في نظرنا، بين شعوب الصومال والسودان وموريتانيا.. ماثلا في أن شعوب بعض هذه الدول تستطيع أن تجوع وتضيع في صمت، فيما يفضل بعضها الآخر أن يعبر عن معاناته بلغة أكثر غضبية مفرداتها الرصاص والدماء والدموع ..

وإذا ما تأكد أن عامل الجوع مفجر للثروات، كما تذهب إلى ذلك العلوم الإنسانية والتقارير العلمية([60])، فإن من المؤكد أن العديد من الدول العربية ستكون على موعد قريب مع عنف يحركه بحث الناس عن قوتهم وأبنية يسكنون إليها..

       وإذا كان من الواضح أن هناك محنا ومعانات اقتصادية يرجح أن تستمر في دوس معظم العرب بثقلها المريع، فإن دول الخليج ستستمر ولو إلى حين، في تمثيل مخازين واحتياطيات لمادة تعد عصب الحياة الغربية الراهنة والقادمة، إلى وقت غير معلوم. ورغم ما أصبح متداولا من أن دول الخليج قد تجاوزت خط اللآعودة([61]) في الرخاء إلى حد أصبح هاجس حكوماتها مركزا نحو ما قد يواجه شعوبا تعودت على الراحة، إلا أن تلك الدول تبقى مرشحة لعدة احتمالات من بينها نفاذ طاقتها أو الاستغناء عنها([62]). حين يتوقف نبض نفط الخليج ستمتد خارطة الألم إلى مختلف مفاصل الجسد العربي، ليتصاعد الفقر، وتتحول المنطقة، في أحسن الأحوال، إلى نقاط ارتكاز وإسناد، والى منطقة (تافهة) اقتصاديا بعد أن يخليها أصدقاء اليوم من الغرب ليحيط بها الأعداء من كل جانب.

على خطوط التماس بين الحاضر والقادم، وبين ماهو اجتماعي وثقافي، تبدو اغلب الحكومات العربية وهي تضيق بالحق والحقيقة، معتمدة في ذلك على آليات ثقافة تقوم على المغالطة وتميع الأصول([63])، وهو ما يعضد فرضية أننا سنواجه أزمات روحية ومادية مدوية. وفي حالة ما إذا استمر عمل بعض الأنظمة بمقتضى معادلة أن قوتها تأتي من إرهاق وضعف مجتمعاتها ثقافيا وعلميا، يصبح من الصعب توقع قرب ظهور أمة عربية تعيش حياة مريحة، ما دام أن المجتمعات في طلبها للحرية والتجديد لا تنموا داخل أوعية من حديد([64]).

رخاوة الإيمان والضمير، ورخاصة الجسد، بأبعادهما الطارئة معضل جديد ومصير مضمون لعربي قادم، مفترض، بدأنا نعيش بعض تطبيقاته ونستمع حجية خطاباته، فحين يجد المرء نفسه في مجتمع لا يوفر له حاجاته الأساسية، تصبح روح الوطنية والشعور بالمسؤولية اتجاه المجتمع والأمة، في نظر هذا الإنسان، أمور لا تلزم ولا تقنع إلا السذج والأغبياء. من المفترض، كذلك، أن يبدو العربي/المسلم الأخير([65])، وهو المجرد من أصوله ومرجعياته القديمة، إنسانا يؤثر تجنب المخاطر والنجاة بما يتبقى له من بدنه، بعيدا عن أي تضحية في سبيل حقوقه وحرمة دينه وأمته. مع ذلك  تبقى أبواب المستقبل مفتوحة للإنسان العربي ليؤدي شعائر مقاومة رفيعة من اجل حياة توازيها في الوصف.

         في الأفق يبدو كسر العلاقة النمطية بين الحاكم والمحكوم العربيين بمثابة الممر الوحيد لتلك الشعوب لكي تحيا بكرامة. وهي مسألة يعترضها العديد من العوائق المرتبطة بثقافة الجبن والتدين المرضي.. الأمر الذي جعل حدث خروج المجتمع على السلطان الجائر امرأ نادرا إن لم يكن معدوما تماما في الماضي العربي الحديث. ثمة، إذن، استبعاد/تحريم لمسالة الخروج على الحاكم (الظالم). وليس ذلك ما يهمنا في مقامنا هذا.

         وسيتبين أن قيامة العديد من الحكام العرب قد أزفت بعد قرون من الجور والألم والتشوف الخرافي لمن يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، وبعد استعداد بعض الشعوب لتقديم ضريبة دموية من اجل انتزاع حقوقها. وكأنه كان لابد أن تأتي الساعة التي يتم فيها  الاستعداد لتحمل تلك الضريبة قبل أن تصبح لها قيمة في حسابات الحكام.

         إن فحص (وباء) الثورات القادر على بعث الحياة في الشعوب التي تستحقها، يقتضى منا الانتباه إلى مسألة تفاوت مستويات المعيشة في البلاد المعنية، حيث يتساكن الإزدراء مع الفقر لدى بعض الشعوب العربية، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على دول الخليج العربي.

ولعل من أبرز مفارقات الراهن العربي أن تستميت بعض مجتمعاته - ذات الطابع المعيشي المتوسط- في العمل من أجل التحرر من اللعنة التي إصابتها بينما تبقي بعضها مرمية على تخوم الحياة، ومقذوفة من إقصاء إلى آخر مكتفية بالمتابعة المذهولة لأحداث الثورات حولها.

         من هذا المنظور نرى بأن بعض الشعوب المريضة تحاول التستر بخبث على أمراضها رغم آثار التشوه والحرمان المتأتية من تواصل أزمنتها الحزينة.

     وإذا تفحصنا، على سبيل المثال، حالة المجتمع الموريتاني سنلاحظ أن واقعه يجسد أوضاعا صعبة ومعقدة. نقصد بذلك أننا إزاء وضعية مركبة من عناصر أزمة اقتصادية وسياسية وثقافية. وتلك بديهية نظرا للعلاقة الجدلية القائمة بين السياسة والاقتصاد والتأثير المتبادل بينهما.

إجمالا نشير إلى أن إلقاء نظرة فاحصة على الواقع الاقتصادي الموريتاني الراهن تساعدنا على تقديم معالجة موضوعية لعاهاتنا الاقتصادية. وإذا ما استندنا في تحليلنا على جزء من معطيات تقرير التنمية البشرية، الصادر عن الأمم المتحدة سنة 2010، سنجد موريتانيا تحتل المرتبة 136 في سلم التنمية البشرية في العالم([66]).

وهنا تظهر معطيات هذا التقرير أن موريتانيا قد أخذت الموقع ما قبل الأخير في السلم الترتيبي للعالم العربي، أي أنها أوت إلى منزلة تقعبعد اليمن وقبل السودان([67]). وقد سبق لخبراء تلك الهيئة العالمية أن صنفوا، في تقيمهم للتنمية البشرية العالمية، موريتانيا ضمن دول التنمية البشرية المنخفضة([68]). كما يذكر نفس المصدر (تقرير 2009) أن نسبة37% من الموريتانيين يعشون تحت مستوى الفقر. وأن معدل البطالة في الشباب تجاوز نسبة 44%. ثم يضيف أن أكثر من 60% من الموريتانيين يعيش على أقل من دولار في اليوم([69]).

ويمكن أن نستطرد هنا في رصد تجليات الواقع المر للاقتصاد الموريتاني من خلال مؤشر بطالة ذوي الخبرات من حملة شهادة الدكتوراه وبقية الشهادات العليا.هنا نستطيع أن نتعرف على هذا الواقع عبر التحرك الاحتجاجي الذي غدا  شبه شعيرة يومية لمئات من أصحاب الشهادات العليا اللاهثين بحثا عن وظيفة. ومن الواضح أن هذا الوضع هو نتاج وضع فوضوي للإدارة الموريتانية ما دام أن بعض قطاعات هذه الأخيرة تعيش حالة امتلاء ممن لا شهادة ولا كفاءة لهم، أو من ذوي الشهادات المتوسطة، فيما تعيش بعض قطاعات تلك الإدارة حالة شغور في للعديد من مناصبها.

انطلاقا من هذه المعطيات، إلى جانب أخرى يضيق المقام عنها، يمكننا فهم الكثير من التشوهات، وضعف المؤشرات الإنمائية للبلاد المقدمة من قبل المؤسسات الدولية المسئولة عن تحليل اتجاهات التنمية البشرية. ويبدو من أي نظرة فاحصة للأمور أن استفحال أزماتنا الاقتصادية ناتج عن عدة عوامل من بينها أن السلطة الموريتانية لا تمتلك رؤية مستقبلية/ إستراتيجية بعيدة المدى لتدبير الشأن العام. بل يمكن القول إنها لا تؤمن بالتخطيط ولا ترى ضرورة له ولا منفعة لها فيه. لهذا تتجه إلى وضع سياساتها على رؤى تكتيكية وبمرجعية مزاجية.

 على المستوى الثقافي نجد أن ثمة أزمة تعلن عن نفسها من خلال تراجع المعرفة برموزها وآلياتها (المجلات/النشر، السرقات في المجال المعرفي..). ويمثل الحقل الجامعي نموذجا دالا في هذا المجال، حيث يتخرج الطالب وهو يجهل الكثير من أبجديات اختصاصه. وتلك نتيجة طبيعية لمؤسسات تعمل بمنطق دعه يغش دعه ينجح علم أو لم يعلم. وفي الوقت نفسه نجد أن هناك عراكا اجتماعيا وثقافيا يدور حول المفاضلة بين اللغتين العربية والفرنسية من حيث أيهما جدير بأن يكون اللغة الرسمية/الإدارية (للدولة)؟. والحق أن التخلي عن اللغة العربية يهدد بأزمة في الهوية بالبلد بينما يؤدي اصطناع الحواجز مع اللغتين الفرنسية والانجليزية إلى تعميق حالة الفوات (التأخر) التي نعاني منها.

   ورغم ما تنطوي عليه بذور أزمتنا، في الهوية، من احتمالات عاصفة مستقبلا، إلا أن الوضع السياسي يبقى المعضلة الأكثر خطورة. وإذا ما أردنا، من جديد، تفحص واقعنا الراهن سنجد أن أبرز التحديات التي تهدد النظام السياسي ماثلة في الحركة الاحتجاجية التي تقوم بها العديد من المجموعات التي غدت تصرخ بالقول أنها لم تعدتقوىعلىتحمل واقعها. يستوي ذلك حملة الشهادات العليا العاطلين عن العمل، وهم الذين يعشون ظروف حياة قاسية، مع من خرج مغاضبا من ضعف الدخل المقدم له من مؤسسات (الدولة)([70]). ورغم ما يعشه النظام السياسي الموريتاني من أزمات مزمنة إلا أن هناك إمكانية لتدارك أخطائه، نظرا لأن ما يهم الناس هنا، في هذه الآونة، هو تحسين أوضاعهم الحياتية.

هناك أيضا عامل أخريشفعللنظامالقائم في الاستقرار والاستمرار.. بشكل مريح. نقصد بذلك أن الأخير يبدو كما لو أنه يراهن على أن قوى المعارضة ما تزال جامدة عند درجة التصريحات الفارغة من نتيجة ملموسة، واستعمال حديث مغالط يقدم النظام وكأنه على وشك الانهيار.. والواقع أنه لا يجدر بتلك المعارضة الحديث عن ذلك الانهيار مادام أنها لا تملك إلا يدا ناعمة وخطاب لا يقوى على تحريك الشارع.

كيف إذن يبدو مستقبل هذه البلاد في ضوء ما يشي به راهنها؟ الواقع أن ثمة مؤشرات تضعنا أمام فرضية تواصل احتجاجات حشود العاطلين عن العمل بقيادة ذوي الكفاءات من حملة الشهادات العليا، بل إن من المؤكد أن أمر تطورها بات وشيكا، خصوصا إذا ثبت أن هناك مكابرة وتعنتا في حل هذا المشكل. من هنا إذا قد تبدأ نقطة اللاعودة في بحث تلك الحشود عن من يشتغل على همومها.. وفي نفس الوقت قد نشهد بحث السلطة عن قاعدة بديلة وخطاب يدعى أن همه الأول يدور حول تحسين أوضاع الموظفين أو الدعاء بالعناية العامة.

وكلما أتضح التعارض بين اهتمامات ذلك النظام وبين أولويات مشاغل هذه النخبة  اتجهت العلاقة بينهما إلى ما هو أكثر توترا وبروزا.

لا يعنى الأمر هنا أننا نتحدث عن قرب وقوع أحداث عاصفة بالبلاد. كل ما يمكن افتراضه هنا – مشفوعا بالكثير من التحفظ المنهجي - هو أن ثمة ركاما من الإحساس بالجور والإقصاء لدى المجموعات المتعلمة التي تعيش بلا وظيفة.

أما غالبية المجتمع فلا تزال تؤثر حب السلامة على أي فعل قد يتضمن شيء من العنف. أقول ذلك وعيني على مجتمع يكاد ينطق بأنه لا يملك راهنا، على الأقل، رغبة الثورة. ليس لأنه لم يفطن إلى رثاثة ملبسه ورداءة مطعمه ومسكنه وأثاثه..، مقارنة مع من دخلوا طور الثائرين على بؤس الحياة ، بل لأنه ينتظر عصرا آخر لكي يتجاوز فيه ذعر احتمالات المواجهة مع الحاكم المتغلب.. أو ربما لأنه يضن بقابلية ثورة يدرك أن زعماء المعارضة ببلده جاهزون لبيعها للحاكم، وهم المترددون دوما على بابه.

 

خاتمـة:

       ختاما نقر بأن معايشة الباحث لبعض الأحداث التي يكتب عنها وانفعاله المفترض بها، قد يشوش على عملية تقويمه الموضوعي لها. ومع ذلك حاولنا إجراء عملية فحص  تستقري الواقع المعقد للعالم العربي المعاصر، وفق منهج "اكرونولوجي" يؤسس على مناهج البحث المستخدمة في العلوم الإنسانية. وعليه كان من اللازم أن نبحث في السجل المرضي قبل أن نقيس نبض الحياة العربية. ومن هنا، تبين - في ضوء ما تقدمه بعض الأبحاث والتقارير العلمية- أننا إزاء ساحة موبوءة بعاهات بنيوية، خصوصا على مستوى الدول التي ما يزال يتربع على عروشها حكام غير مؤهلين للقيادة في هذا العصر. حيث يكفي المرءَ أن يلقي نظراً على النمط الأخير من الدول، كي يتبين جزءا من الواقع المحزن الذي تكابده هذه الدول.

ورغم تباينات المستوى المعيشي والاقتصادي للدول المنتمية إلى المجال العربي، إلا أن هناك أزمات مشتركة ومستديمة في نمط حياة تلك الكيانات على مختلف مجريات الواقع، والماضي ومستقبل.

والآن وبعد أن أضاءت أنوار الثورات العربية الكثير من "ساحات الجور"، حيث يتعامل العديد من الحكام مع (مجتمعاتهم) تعاملا فظا، يغدو الأمل ممكنا في أن يتعقل الإنسان العربي واقعه..

في المستقبل ستتواصل تشوهات حياة الشعوب التي انطبعت شخصيتها بالمسكنة والمذلة. كما يمكن أن نستخلص من اتجاه الأحداث احتمال أن تختفي بعض مظاهر الضغط السياسي، مع افتراض أن يترافق ذلك مع استمرار بعض ثوابت أزماتنا، الى جانب بروز بعض المآزق التي قد تظهر لأول مرة، خصوصا بالبلدان المرشحة لاختلالات حادة بين ارتفاع  سقف الحرية الحاصلة توا في تلك البلدان، وبين تواضع الرصيد الاقتصادي لها.

         ويبقى الهم والتحدي هنا هو إيجاد حياة عربية رفيعة. وهو أمر لن يتحقق إلا من خلال التضحية التي تستلزم تكريم الشهيد من خلال تخليده عبر عدة آليات. وفي نفس الوقت نرى أننا بحاجة إلى تغير طرائق تصورنا وتصرفنا اتجاه الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يستلزم أيضا التفكير المتواصل الهادف إلى استشعار علامات كوارثنا القادمة.

المصدر: مجلة دراسات التابعة للمركز، العدد الأول.

 


 

[1])علي امليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير، بيروت، 1985، ص28-30.

[2])ينظر مثلا: ادوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، تحقيق كمال أبو ديب، دار الآداب، ط3، 2004، ص: 124 وما بعدها.

[3])سعيد الدين ابراهيم، علم النكبات... دروس وعبر، مجلة السياسية الدولية، القاهرة/مصر، يوليو1998،ع،133، ص91.

[4])عبد الإله بالقزيز، العنف والديمقراطية، منشورات مؤسسة الزمن، مطبعة النجاح ،الدار البيضاء، 1999.

[5])محمد عز العرب، عرض لكتاب الفقر في الوطن العربي، لمؤلفه احمد السيد النجار، الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتجية بالأهرام، ط1/2005، مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة للجامعة العربية، القاهرة، 2006، (بتصرف ص 254).

[6])نفسه، ص256.

[7])تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الانمائ – المكتب الاقليمي للدول العربية، ص 12. مع الاشارة الى وجود نسخة محفوظة من هذا التقرير على صيغة PDFبموقع:WWW .ARAB-HDR.ORG

[8])نفسه، ص258.

[9])ينظر، مثلا، نضال محمد العضايلة، مشكلات الهوية والاستقلال المبكر لدى الشباب العربي في المهجر، ضمن كتاب: الشباب العربي في المهجر، منتدى الفكر العربي، عمان/الأردن،2008، ص،205، وما بعدها.

[10])أدرك أن الفظ الأخير ونظيره السابق عليه قد تضمنا معنى معياريا، لهذا لزم التحفظ/ التقويس عليهما، أما المقصود بلفظ "الاقتصاد الوسخ" فهو استعمال بعض مكونات تلك الاقتصاديات لوسائل غير شرعية، فيما عنينا بلفظ التسول هنا اعتماد وإلحاح بعض الدول العربية على المؤسسات الدولية، والأوربية..، في طلب المساعدة.

[11])السيد يسين، التحليل الثقافي لأزمة الخليج  ضمن كتاب: أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت/لبنان، ط2-1997، ص53.

[12])يعد الاعتراف، بالكتابة، عن هذه النتيجة في العالم العربي أمرا محرما، إلا أن ذلك لا ينفي تاريخيتها التي تؤكدها مختلف القرائن والأدلة.

[13])حسن أوريد: تلك الإحداث..، إصدارات مركز طارق بن زياد، الرباط، ص22، وما بعدها.

[14])ينظر مثلا: أحمد برقاوي: التحولات الراهنة في المنطقة العربية، مجلة الفكر العربي العاصر، ع: 126 /127، 2003، ص58.

[15])هزء العالم، يحي يحياوي، العراق القائم والقادم، منشورات عكاظ، 2008، ص46-47.

[16])على أسعد وطفة: التربية العربية والعولمة: بنية التحديات وتقاطع الإشكاليات، مجلة عالم الفكر، العدد2، المجلد36، أكتوبر- ديسمبر،2007، ص340، وما بعدها.

[17])ينظر: يعقوب تشوان، التربية في الوطن العربي في مشارف القرن العشرين، مطبعة المقداد، غزة/فلسطين، 2000، ص331، وما بعدها.

[18])محسن بوعزيزي، ثقافة الشبح، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع:132/ 133، 2005، ص137.

[19]) ينظر تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009،ص:56-59-70.

[20])  ينظر، مثلا، نظام الدين عرفان، حرب الخليج وجذور المحنة العربية، دار الدسوقي،1991،ص 141.

[21])تمكن العودة في هذا الشأن إلى:جميس السكوت، المقاومة بالحيلة، كيف يهمس المحكوم من وراء الحاكم، دار الشروق/بيروت/ط1 :1995، ص96،وص 101.

[22])نصر حامد ابو زيد: الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ص52، وما بعدها.

[23])محمد حسنين هيكل، أزمة العرب ومستقبلهم، م،س،ص34-35.

[24])تمكن العودة في هذا الموضوع الى:عبد الرازق،ثقافة الخوف، عن موقع:َNet/nivisar

[25])مطاع صفدي: شجاعة الحق، مجلة الفكر العبي المعاصر، ع: 136/137، 2006، ص: 3.

[26])Michel Foucault Histoire de la Folie A L'âgé Classi que ,Paris,Tel Gallimard,2003,p24,25.

[27])نوقش هذا الموضوع من قبل العديد من الكتابات، ومن أقربها إلينا كتاب: روجيه روتورني: كيف نصنع المستقبل؟ ترجمة منى طبلة ونور مغيتا.

[28])عادل عبد الطيف: الفساد كظاهرة عربية وآلية ضبطها، ضمن كتاب: الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية..، ص: 390.

[29])ياسين الحافظ، الهزيمة والايدولوجيا المهزومة، الآثار الكاملة، دار الطليعة، بيروت1979، ص120.

[30])نفسه، ص121.

[31])سعد إبراهيم، علم النكبات العربية..، م، س،ص91-92.

[32])محمد حسنيين هيكل، أزمة العرب ومستقبلهم...م، س، ص16.

[33])عبد الرازق، ثقافة الخوف، م،س.

[34])عبدالله العروي، الايدولوجيا العربية المعصرة،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،1995.

[35])يراجع سعد ابراهيم، علم النكبات العربية..، م، س، ص93-94.

[36])محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/ لبنان1986.

[37])فتح الله خليق: الاغتراب في الإسلام، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد1، مايو1979، ص83.

[38])تُعزى مقولة أن العالم العربي يترنح بين سكرت نواسية وشطحة حلاجية،فإذا أفاق منهما عاجلته بطشة حجاجية،إلى المفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي.

[39])عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد حجفه،  دار تبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2000.

[40])ينظر على سبيل المثال: يوسف سلامة، الجامعة والفلفسة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع:126/ 127، 2003، ص: 3.

[41])سعد الدين إبراهيم، علم النكبات العربية.. دروس وعبر، مجلة السياسية الدولية، م، س، ص91.

[42])نفسه، ص92، وما بعدها.

[43])استعرنا هذا المفهوم، بواسطة حسنيين هيكل، من محمود درويش.وقد ورد هذا المفهوم في عدد من صفحات كتاب هيكل:مستقبل العرب، ينظر مثلا، ص23.

[44])توجد العديد من البراهين الدالة على هاتين الحالتين ،من بينهما تنكر العديد من الجهات الرسمية العربية، ممارسة وخطابا، لمقاومى هذين  الشعبين، ونعت ومعاملة من يناصرهم بالإرهابي.

[45])سعد الدين إبراهيم، علم النكبات العربية ..، م ، س، ص92.

[46])هادى نعمان الهيتى، إشكالية المستقبل في الوعي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان،2003 ، ص36 وما بعدها.

[47])ينظر، مثلا، وسيم مزيك، العلم وأضداده، مجلة أبواب، بيروت/لبنان،1998،ص46.

[48])مسعود ضاهر: ثقافة التغير في مواجهة ثقافة التبرير السائدة  في الوطن العربي، مجلة الفكر العبري المعاصر، ع:134/135،2006،127.

[49])احمد صدقى الدجانى، العرب والمسلمون والعولمة،  ص373.

 [50])عماد الدين حلمى عبد الفتاح ، تقرير مؤتمر: العرب وإسرائيل عام 2015، السيناريوهات المحتملة ، مجلة شؤون عربية ، م، س، ص 228.

[51])فواز جرجس، التسوية السلمية والتطوير الديمقراطي في الوطن العربي، ضمن المؤلف الجماعي:العرب..إلى أين؟، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان 2002 ، ص266 ومابعدها.

[52])خير الدين حسيب، مستقبل العراق....، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان،ط1،2004، ص 57-63-64.

[53])  أسامة عبد الرحمن، النفط العربي إلى أين؟، صمن كتاب:العرب..إلى أين؟، م، س، ص44.

[54])المولدي عز ديني ، في راهنية العقل والأخلاق: موقعها في تشريع مطلب (السلم الأبدية) عند كانط ، مجلة الفكر العربي المعاصر ، مركز الإنماء القومي – بيروت – لبنان ،ع:128/ 129، ربيع 2004، ص 85.

[55])إبراهيم سعد الدين، وآخرون، صور المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان، بالتعاون مع جامعة الأمم المتحدة، مشروع المستقبلات العربية البديلة، ط 3،1989، ص139.

[56])نفسه 13، ص8 .

[57])يراجع، مثلا: زياد حافظ، أوضاع الأقطار النفطية وغير النفطية، ضمن المؤلف الجماعي: دولة الرفاهية الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان، بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، 2006، ص440.

[58])ينظر ، مثلا، تقرير التنمية الانسانية العربية، م، س، ص 27، وص 114، وما بعدها.

[59]) سالم توفيق النجفي، الأمن الغذائي العربي(مقاربات إلى صناعة الجوع)، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت/لبنان- ط1- 2009 ، ص113.

[60])تقرير التنمية الإنسانية..، م، س، ص 122.

[61])بدرية البشر، وقع العولمة في مجتمعات الخليج العربي: دبي والرياض، أنموذجان، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه (70)، ص87.

[62])كولن كاميل، ترجمة عدنان عباس علي، منشورات عالم المعرفة، مطابع السياسية/الكويت، ع :307 ، 2004، ص192.

[63])فاتح سميح عزام، الحقوق المدنية والسياسية في الدساتير العربية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/لبنان،ع :277، مارس2002، ص24، ومابعدها.

[64])محمد حسنين هيكل، أزمة العرب ومستقبلهم، م، س، ص49.

[65])فتحي المسكيني، ما هي( أمريكا)؟ أو الحرب المتر حلة، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، لبنان /بيروت،ع:128/ 129،2004 ص33.

[66])تقرير التنمية البشرية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2010. تمكن مراجعة هذا التقرير مترجما إلى اللغة العربية ( ومحفوظا على صيغة PDF)، على موقع الهيئة المنجزة لهذا التقرير وهو:http://hdr.undp.org

[67])نفسه.

[68])تقرير التنمية البشرية، برنامج الأمم المتحدة، لسنة 2009، على الموقع الاممي:http://hdr.undp.org

[69])نفسه.

[70])تمكن الإحالة بهذا الشأن إلى ميادين المؤسسات الرئيسية بالعاصمة نواكشوط.

 

البحث

آخر الإصدارات

إعلان

المركز على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox

وحدات المركز

وحدات