الحراك السياسي للحراطين.. انتفاضة هادئة (☆) |
تميزت الهيئات السياسية المدافعة عن الحراطين وعبر مراحل تطورها بقدر كبير من الوحدة، منذ إنشاء حركة الحر 1978م مرورا بدخولها تحت عباءة حزب اتحاد القوى الديمقراطيةعام 1992م، ثم انفصالها في حزب العمل 1996-2002، وأخيرا في حزب التحالف الشعبي التقدمي.
غير أن السنتين الأخيرتين شهدتا حراكا سياسيا لدى الحراطين كسر هذه الأحادية من خلال بروز هيئات سياسية وأحيانا طروحات سياسية بعضها من داخل إطار الحر التاريخي أوامتداده السابق في حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي يرأسه حاليا زعيم الحركة التاريخي مسعود ولد بلخير، والبعض الآخر من خارج هذا الإطار.كما تنوع طابع هذا الحراك ما بين السياسي الصرف (حزب المستقبل)، والسياسي ذي الخلفية الحقوقية (محاولة إيرا ترخيص حزب سياسي)،والسياسي ذي الطابع الاجتماعي(وثيقة الحراطين).
لقد رأينا في التقرير الاستراتيجي أن نتوقف عند هذا الحراك بما له من تنوع، وما يوحي به من جدة في الوجود السياسي لهذه الشريحة التي بدأت منذ سنوات قليلة في خطوات تدل على تعاظم تدريجي لمكانتها السياسية.وإن كانت لم تقترب من الحالة الطبيعية التي تؤهلها لها مكانتها الديموغرافية، والدور الاجتماعي الذي أصبحت تلعبه.
وثيقة الحراطين.. إعلان حقوق مدنية طرحت هذه الوثيقة في 29 إبريل 2013، خلال نشاط عام بدار الشباب في العاصمة نواكشوط، وفي حفل حضره عدد كبير من أطر ومثقفي الحراطين من مختلف الخلفيات السياسية والفكرية والمهنية.وقد جاءت هذه الوثيقة التي حملت عنوان: (من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة عادلة ومتصالحة مع نفسها) بعد تحضير طويل وهادئ شارك فيه مختلف الهيئات والشخصيات المهتمة بهذه القضية من الحراطين.
وتعتبر هذه الوثيقة إجماعية تعبر عن وجهة النظر "الرسمية"لكافة الحراطين، وتجلى ذلك في ما يلي:
- مشاركة كافة الهيئات والشخصيات المعروفة من الشريحة في طرحها. - تنوع انتماء الشخصيات التي حضرت حفل إعلانها: سياسيا (أحزاب الأغلبية، أحزاب المعارضة)،وحقوقيا (نجدة العبيد، إيرا..) وأيديولوجيا (ليبراليون، قوميون، إسلاميون). - الخطاب الذي سلكته الوثيقة والذي يحرص على الوسطية في الطرح والقوة في المطالب، ويتبنى الآراء الاجماعية لدى المهتمين بالقضية مثل:إدانة ماضي الاسترقاق، وحاضر التهميش والفقر،والمطالبة بتمييز إيجابي على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتجنبها للقضايا الخلافية داخل وجهات النظر المختلفة بين هيئات الحراطين. إن الأهمية السياسية لهذه الوثيقة هي أنها قد تكون نواة لبروز قواسم مشتركة سياسية لدى كل الحراطين.ومن شأن ذلك ـ إن حصل ـ أن يحدث تغييرا في الحياة السياسية بموريتانيا (تغيير في حجم حضور الحراطين في البرلمان والمجالس البلدية، حظوظ أوفر لمرشحي الشريحة للرئاسيات).
إيرا.. والسعي إلى الحزب السياسي رغم أن مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية(إيرا)برزت أصلا منظمةً حقوقية غير معنية بالشأن السياسي بمعناه الخاص، إلا أن قادة الحركة وخاصة زعيمها بيرام ولد الداه ولد اعبيدي بدؤوا منذ فترة في التعبير عن رغبة الحركة في التوجه إلى ممارسة العمل السياسي، ومر ذلك بمسار متدرج كانت خاتمته إعلان الحركة طرح مشروع حزب سياسي يحمل الاسم "الحزب الراديكالي من أجل العمل الشامل" لدى وزارة الداخلية لترد الوزارة برفضه في بيان نشر يوم 4/8/2013 متعللة بمقتضيات المادة 6 من الأمر القانوني 024-91 الذي يمنع الترخيص للأحزاب ذات التوجه العنصري أو العرقي، وهو ما اعتبرته الحركة استهدافا لها وتلاعبا بالقانون.
إن تحول الحركة - التي نشأت في أصلها حقوقية - في اتجاه العمل السياسي غير مستغرب لعدة أسباب:
-الطبيعة السياسية أو البعد السياسي الاجتماعي للملف الحقوقي الذي تحمله. - التجربة التاريخية لحركة تحرير وانعتاق الحراطين (الحر)أول حركة تبنت المطالب الحقوقية والسياسية لهذه الفئة؛ فقد نشأت هذه الحركة حقوقية في مطالبها المتعلقة بالقضاء على العبودية، وإن كانت متأثرة في عمقها بالمدّ الحركي السائد في موريتانيا خلال السبعينات والثمانينات.ثم لم يزل الطابع السياسي يغلب عليها إلى أن شقت لنفسها طريقا واضحا يقوم على ازدواجية المسارين الحقوقي والسياسي، من خلال جناح سياسي هو الذي وصل أخيرا إلى شكل حزب التحالف، وجناح حقوقي هو الذي تبلور في شكله الأخير في منظمة نجدة العبيد.والنظرُ إلى الشكل الذي أعلنت به إيرا عن حزبها (جناح سياسي للحركة، وليس تحولا للحركة إلى حزب سياسي) يوضح أنها تتبع المسار ذاته. - بل يمكننا القول إن تحول الحركات ذات الطابع الاجتماعي- السياسي أو الثقافي الأيديولوجي في موريتانيا يمر دائما بالمسار ذاته.
وهنالك أمر آخر يستحق التوقف في تجربة الحركة في دخول المعترك السياسي؛ إذ بدأتها أولا عبر طريق المعارضة من خلال المشاركة في المسيرات الداعية لإسقاط النظام ورحيله.غير أن هذا الموقف الذي كان قبل الحادثة المعروفة بمحرقة الكتب تغير بعد خروج زعماء الحركة من سجنهم بعد الحادثة؛ فقد سلكت حركة "إيرا" خطا مستقلا عن المعارضة في اهتماماتها وفي خطابها. وفي أول خرجة لهؤلاء الزعماء طرحوا موضوع المشاركة في الانتخابات التي لم تكن يومها مطروحة على الساحة؛ ومع ذلك فلا يمكن القول ـ نهائيا ـ إن الحركة انحازت للنظام، لأنها تعتبر أن اللعبة السياسية القائمة ـ كلها ـ لا تعنيها بقدر ما يعنيها إيصال ممثلين عنها للمنابر السياسية ليحملوا فكرها ويدافعوا عنها.
غير أن بعض المؤشرات يمكن أن توحي بأن في الخط الذي سلكته الحركة تهدئة مع النظام مثل شكر زعيمها بيرام ولد الداه ولد اعبيدي لرئيس الجمهورية عند خروجه من السجن بتاريخ 4/9/2012 على اكتتاب أئمة من الحراطين، وكذلك شكره أكثر من مرة للإدارات المحلية على تعاطيها الإيجابي مع حالات العبودية التي رفعتها له الحركة.هذا فضلا عن تبني خط المشاركة السياسية باكرا في وقت كانت فيه المعارضة تطالب برحيل النظام، ولم يكن النظام نفسه يطرح في ذلك الوقت موضوع الانتخابات.
على أن هنالك ما يثير الانتباه في مشروع الحزب السياسي الذي طرحته إيرا، فمع أن الطبيعي أن تكون الحركة حريصة ـ بعد أن قررت التوجه للفعل السياسي ـ على أن يحصل الحزب على الترخيص؛ لأن ذلك هو أول خطوات الاندماج في الحقل السياسي، خاصة بعد صدور القوانين المانعة للترشح المستقل.إلا أن الاسم الذي اختارته الحركة لحزبها ـ وخاصة صفة "الراديكالية"، وما تحمله من "استفزاز" للإدارة المسكونة بهواجس نفسية من هذا النوع من التسميات ـ لا يتوافق مع الواقعية التي تطبع سلوك السياسيين.فهل قررت الحركة أن لا تخدش واقعية السياسة من أساليبها الراديكالية المبدئية، أم هي بقايا الروح "الثورية" في الحركة؟!
المستقبل..حزب ثان من رحم الحر لعل ظهور هذا الحزب من أبرز الأحداث التي عرفها ما اصطلحنا على تسميته بالحراك السياسي للحراطين. ومن المعروف أن القائمين على حزب المستقبل هم المنشقون من حزب التحالف الشعبي التقدمي بعد أن رفضت وزارة الداخلية منافسة مجموعة "لجنة الأزمة" في الحزب.
وبالطبع كان لهذا الانشقاق تداعيات سياسية يمكن أن تستمر مستقبلا؛ فقد أفرز ثنائية داخل الساحة السياسية للحراطين أدت إلى اتخاذ قطبَيْ هذه الثنائية لمواقف مختلفة من النظام أو المعارضة بحسب موقف القطب الآخر.وإذا كان بعض المراقبين يرى أن من أسباب توجه حزب التحالف للحوار مع النظام حمايةُ البيت الداخلي، فإن البعض الآخر يفسر لجوء حزب المستقبل إلى المعارضة بأنه سعي وراء شعبية الحزب والشعبية العامة التي تتخذ مواقف معارضة للنظام.
هذه الثنائية قد لا تتوقف في الوقت الراهن خاصة إذا قوي هذا الحزب الوليد؛ فعندها قد نجد أنفسنا أمام أكثر من ممثل سياسي للحراطين الذين تقول المؤشرات الإستراتيجية أن مكانتهم السياسية ستتعاظم مع الزمن.
حزب الوئام...حرطاني على رأس حزب "عام" تطور آخر شهدته الحياة السياسية الموريتانية له علاقة من نوع ما بقضية الحراطين، وإن لم تكن له علاقة مرتبطة مباشرة بحراك الحراطين؛ ألا وهو التمدد والكسب الانتخابي المعتبر الذي حصل عليه حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي بقيادة "الحرطاني" بيجل ولد هميد، الذي حل ثالثا بين الأحزاب السياسية في نتائج الانتخابات البرلمانية؛ فولد هميد – الذي وصل لرئاسة الحزب بصفته الشخصية وليس الفئوية- يتبنى نظرة خاصة لقضية الحراطين تقوم على أنها قضية تاريخية تعالج بهدوء وبالتعويل على الزمن،مع الحرص على الاندماج مع "البيظان"باعتبار الجميع مكونا واحدا من مكونات المجتمع الموريتاني ناطقا باللغة العربية مقابل المكون الزنجي.
إن المكانة التي حصل عليها الحزب في الساحة السياسية والوسط الاجتماعي، ووجود شخصيات إدارية ومالية واجتماعية وازنة في قيادته، يذكر بالتفاف أطراف عديدة خلف المرشح الرئاسي مسعود ولد بلخير سنة 2009م.والأمران يعنيانأن تقدما حصل في تقبل "البيظان" للزعامة السياسية للمنحدرين من أوساط "الحراطين"، وبالمقابل يقويان حجج القائلين بإمكانية التعويل على الاندماج السياسي الوطني وتعزُّز حظوظ القضايا الوطنية من خلال العمل المشترك.
إننا إذن أمام اتجاهين في حراك الحراطين يدعو أحدهما لمزيد من التركيز على قضية الحراطين، وحل الإشكالات المرتبطة بها؛ باعتبار إنصاف أكبر المظلومين مدخلا لإصلاح الشأن العام.أما الثاني فيدعو للنضال من أجل إصلاح أحوال الوطن باعتبار ذلك مدخلا لإنصاف كل المظلومين.والنقاش حول هذين الاتجاهين لا يقتصر على الحراطين بل يشمل عددا من المهتمين بالشأن العام وقضايا المظالم وهو يوحي بظاهرة إيجابية على مستوى تطور الوعي الجمعي؛ وخاصة بين الشباب.
محطات سابقة رغم أن الحيز الزماني للتقرير ينصب على سنتي 2012و 2013م، إلا أننا نرى أن رصد ما أسميناه "الحراك السياسي للحراطين" خلال هذه الفترة سيكون أكثر إفادة إذا ختم بعرض اكرونولوجي لبعض المحطات السياسية لهذا الملف خلال السنوات الأخيرة، فمن شأن ذلك أن يعطي فكرة عن التطور المتسارع في حجم حضور هذه الشريحة في المشهد السياسي.وحين نقول التطور المتسارع فإننا لا نقيس ذلك بما يتناسب مع الوزن البشري و الدور الوطني، وإنما بالمقارنة مع حجم الغياب السابق:
- 2007م حلول مرشح حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير في المرتبة الثالثة في رئاسيات 24 مارس 2007م، وتحالفه في الشوط الثاني (7بريل) مع المرشح سيدي محمدولد الشيخ عبد الله؛ مما أدى لفوز الأخير على المرشح أحمد ولد داداه الذي تحالفت معه المعارضة. - 2007م انتخاب ولد بلخير رئيسا للبرلمان بالإجماع بعد ما رشحه النظام الذي تحالف معه ودعمه رفاقه السابقون في المعارضة. -2007م حصول حزب التحالفالشعبي التقدمي ـ لأول مرة في تاريخ الأحزاب المعارضة الممثلة لشريحة الحراطينـ على وزيرين في الحكومة التي عينها الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. ـ 2009م ترشيح أحزاب الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية لزعيم الحزب مسعود ولد بلخير لرئاسيات 18يوليو.وهي أول مرة يحظى فيها ولد بلخير بدعم من أحزاب غير حزبه؛ مما أهله للحلول في المرتبة الثانية في نتائج الاقتراع لأول مرة (حلَّفي المرتبة الرابعة في انتخابات 2003، والثالثة في انتخابات 2007). ـ 2010 حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي ـ المتكون من اندماج حزب البديل وجناح بيجل ولد هميد من حزب عادل ـ يختار بيجل ولد هميد رئيسا له؛ ليكون ثاني حرطاني يترأس حزبا سياسيا، رغم أنه لم ينل هذا المنصب بسبب كونه حرطانيا.
------------------
(☆) ـ نشرت هذه الإطلالة ضمن المحور السياسي من التقرير الاستراتيجي لموريتانيا 2012/2013 الصادر عن المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية في شهر مارس 2014. ونعيد الآن نشرها بالتزامن مع الذكرى الثالثة لتأسيس ميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين، وفي ظرف شهد الحراك السياسي للحراطين فيه متغيرات جديدة من بينها حالة الانقسام التي عرفها حزب المستقبل والانشقاقات في حركة "إيرا"، وفي وقت كشف سجن رئيس "إيرا" ونائبه اللذين يقضيان حكما بالسجن سنتين نافذتين منذ 11 نوفمبر 2014، عن حالة التحام كبير في الوسط االحقوقي والاجتماعي المعارض تتقدمه النخب السياسية الحرطانية.
|