موريتانيا في أفق 2030: استشراف للتحولات السياسية والاجتماعية والجيوستراتيجية
يجمع كثير من المحللين والمتابعين للشأن العام في موريتانيا على أنها تمر حاليا بلحظة فارقة في تاريخها المعاصر تضعها أمام احتمالات متعددة في بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومع الإحساس المتنامي بهذه الوضعية فإن مزيدا من التشخيص يظل ضروريا لهذا الواقع من أجل فهمه أولا ومن أجل تنوير الفاعلين بما يجب أن يُعمل من أجل اغتنام الفرص والخروج من التحديات القائمة.
وسبيلا إلى ذلك نظم المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية عدة ورشات استدعى لها عددا من الخبراء من مختلف المشارب والتخصصات ووضع بين أيديهم ورقة تمهيدية تقدم جملة التساؤلات التي تؤرق الرأي العام.
وجاءت الورقة على النحو التالي:
أولا: المجال السياسي
قدمت الورقة التمهيدية للورشة أسئلة محددة حول الاحتمالات الممكنة للتحول السياسي بعد انتهاء المأمورية؟ وكيف ستتبلور علاقة الجيش بالسلطة؟ وهل تستطيع المعارضة الضغط على النظام والجيش لإنجاز تحول مدني؟ وماذا عن المخاوف من انهيار النظام في حال إصراره على الاستمرار أو خروجه بشكل مفاجئ؟ وما طريقة الانتقال المفضلة لدى المعارضة؟ وما القوى التي يتوقع أن تحدد مصير البلد؟ وأخيرا هل يتوقع بروز صراع جهوي على السلطة؟
أما الآراء التي قدمها الباحثون فانصب المحور الأول منها على توصيف الوضعية السياسية القائمة حاليا والمؤثرات الداخلية والخارجية عليها، فيما انصب المحور الثاني على السيناريوهات المتوقع أن يؤول إليها الوضع السياسي في البلد في الأفق المرصود في الورقة.
بخصوص الوضعية القائمة وردت بعض التحليلات المهمة في فهم خلفية المشهد، منها:
1- أن الديمقراطية التمثيلية المعتمدة في البلد تحرم الخاسر انتخابيا من أبسط أنواع المشاركة في السلطة وهو ما يؤدي إلى رفض أي شرعية لمنافسه الفائز لذلك لا بد من اعتماد مقاربة تقوم على إشراك الخاسرين انتخابيا وقد اعتمدت هذه المقاربة مؤخرا في العديد من البلدان أفغانستان – إثيوبيا – وغيرهما.
2- أن الأرضية لم تنضج بعد بما فيه الكفاية لتطبيق الديمقراطية بصورة صحيحة نظرا لعدم الوعي وسيطرة أهل المال وغياب الإعلام المدعم.
3- أن القوى الدولية المؤثرة في المشهد لم تكن تهتم أصلا بالتحول الديمقراطي وازداد الأمر بعد الأزمات الناشئة عن الربيع العربي، ولكنها بالمقابل تحرص على الاستقرار نظرا للدور الوظيفي الذي يقوم به البلد بسبب موقعه الجغرافي.
وبخصوص القوى المؤثرة في المشهد التي سيحدد موقفها طبيعة التغيير المنشود فيأتي في مقدمتها الجيش. وقد لوحظ مؤخرا أنه – فضلا عن نفوذه التقليدي- بات له حضور طاغ في مجالات بعيدة عن اختصاصه مثل التعليم والصفقات العمومية، وباتت القبلية والجهوية حاضرة لدى الضباط (وهو أمر يمكن القول إنه تكشف منذ انقلاب 2003) كما أن غالبية قمة هرمه من فئة مجتمعية واحدة وعلى العكس منها قاعدة الدنيا " الجنود وضباط الصف".
- وبالنسبة لرجال الأعمال فيلاحظ حاليا وجود توتر في علاقة عدد منهم بالسلطة إما بصورة مباشرة وعلى منحى سياسي أو بصورة غير مباشرة وبصورة اقتصادية: (هجرة رؤوس الأموال).
- أما القوى التقليدية فهي في الغالب تبع لمن في السلطة ودورها يقتصر على التبعية للغالب وإعطائه السند الاجتماعي.
- وبالنسبة للمعارضة فهي حاليا كيانات متناقضة وعديمة الوسائل في معظمها وتأثيرها في الشارع ضعيف، وتتميز العلاقة بينها وبين النظام بالعداوة الشديدة، ومع ذلك قد تدفع ضغوطها إلى تبني بعض الإصلاحات المحدودة.
أما في السيناريوهات المحتملة للتحول فرأى الباحثون أنها:
1- أن يقع تغيير جزئي إما عبر صيغة توافقية بين الفرقاء أو بدونها ولكن بطريقة تجمع بين المطلب الشعبي والسياسي القوي على التحول الديمقراطي، وبين الحقائق السياسية الماثلة التي تقول بعدم وجود قوة ضاغطة لتكريس انتقال كلي باعتبار أن السياسة لا تصنع بمجرد الطموحات وإنما بالعوامل الواقعية، ويمكن أن تتفرع عن هذا السيناريو الاحتمالاتُ التالية:
تحويل النظام السياسي إلى نظام برلماني وخلق منصب رئيس الوزراء بصلاحيات واسعة ينتقل إليه الرئيس الحالي.
أن ينسحب الرئيس ويفسح المجال لقائد الجيوش محمد ولد غزواني لخلافته وتأمين انسحابه من السلطة.
2- أن تحاور السلطة نفسها وتكرس الواقع القائم وهو أمر مستبعد نتيجة لعدم أخذه في الحسبان لطموحات الشعبية والمحددات الدستورية لكنه يبقى قائما إذا لم يوجد خيار توافقي.
3- أن تتعثر جهود الحوار بين الفرقاء وتعجز السلطة أن تمرر -بطريقة مقبولة- حوارها الذاتي مما يؤدي إلى انسداد سياسي يقود إلى انقلاب دموي يقوده صغار الضباط في ظل سيطرة الحكم الحالي على مراكز القوة في الجيش.
والنتيجة التي يمكن الخروج بها في قراءة الأفقين القريب والمتوسط في ما يتعلق بالانتقال السياسي وبإرساء التغيير الكلي أن العقدة الحقيقية في تحديد السيناريو هي هل سيقع الانتقال الدستوري المفروض في سنة 2019 أم لا وما هي الكيفية التي سيقع بها كل من الاحتمالين، وبالمجمل فإن المشاركين يرون أن احتمالات التوصل إلى حالة من الاستقرار المقنن والمستديم في القريب العاجل ستبقى ضعيفة لكن ذلك لا يمنع من القول إن المرحلة في أفق 2030 ستكون مرحلة انسلاخ من الأنظمة الأحادية إلى النظام الديمقراطي بشكل تدريجي ترافقه بعض المطبات، وهو أمر سيسهم فيه مدى مرونة المعارضة وتقبلها للحلول التوافقية التي يمليها ميزان القوى.
ثانيا: المجال الاجتماعي
وتطرح الورقة أسئلة من قبيل: ما مستقبل الحركات الفئوية؟ وما تأثيرها على اللحمة الاجتماعية؟ وما ذا عن احتمال التوصل إلى حلول بشأنها؟ والأدوار التي يمكن أن تلعبها مختلف الأطراف؟
في تحليل الحراك الاجتماعي رأى المتحاورون أن النظرة إليه يجب أن تنطلق من تحليله تحليلا مزدوجا بين السلبي والإيجابي فهو من ناحية حراك نحو التمدن والتقدم فرضته التحولات التمدينية التي مر بها المجتمع، وهو في نفس الوقت تعبير عن إفلاس الدولة وعجزها عن أن تكون بوتقة جامعة تحول دون تحول هذا الحراك التمديني إلى تشظي الهويات وتفتت البنيات الاجتماعية التقليدية التي كانت قائمة، مما جعل الناس ينزعون إلى البحث عن المصالح الضيقة.
هذا في ما يتعلق بأصل بروز هذا الحراك. أما زيادة وتيرته فإن من أسبابها الواقع الاقتصادي الصعب والسياسة الرسمية للدولة في موضوع التعيينات التي تعتمد تعيين الأطر على أساس انتماءاتهم الضيقة وضرب زعماء الشرائح بعضهم ببعض واعتماد الحلول التكتيكية قصيرة المدى في موضوع حساس كهذا.
أما عن السيناريوهات المستقبلية لتطور الوضع الاجتماعي فرأى المشاركون أنها متعلقة إلى حد كبير بالسيناريوهات السياسية:
1- ففي حال استمرار الأزمة البنيوية السياسية فإن التخوف من الصراع الاجتماعي الذي قد يؤدي إلى انهيار الدولة يبقى قائما؛ فواقع أبناء الفئات الهشة يشكل تهديدا حقيقيا للمستقبل بفعل حالة الاحتقان الناتجة عن التهميش والغبن في أوساط هذه الفئات وبفعل التعامل المحتشم للدولة الموريتانية مع قضية العبودية منذ الاستقلال حيث تتكدس القوانين دون تطبيقها.
2- أما في حالة حدوث حالة وفاق سياسي فإن الحركات ذات الطابع الفئوي التي هي استجابة لحقوق معطلة، ستتجه للاعتدال أو تضمحل لصالح الأطروحات الشاملة، وبروز حركات تغلب البعد الوطني سوف يقوض وجود الحركات الفئوية، فالحركات التي تحمل مطالب شاملة تمهد لتأسيس قوة اجتماعية مؤثرة وقائمة على المطالب الوطنية بديلا عن القبيلة والشريحة، كما يتوقع أن تجد المسألة الاجتماعية في -بعديها الفئوي والجهوي- أفضل فرصة للحل في الظروف التوافقية لأن ظروفا كهذه لا بد أن تنتج وضعا يكون للأغلبيات فيه كلمة الفصل (الشرق- الحراطين).
ثالثا: المجال التنموي
وتضمنت الورقة بخصوصه الأسئلة التالية: ما تأثير انهيار أسعار المواد الأولية على الاقتصاد الوطني؟ وكيف يمكن تنويع الاقتصاد حتى لا يظل رهينة لتقلبات السوق الدولية؟ وهل هناك خشية من وقوع أزمة اقتصادية؟
رأى المشاركون في الورشات أن الوضعية الاقتصادية الحالية صعبة جدا وأن أسباب ذلك هي:
1- انهيار أسعار المواد الأولية
2- غياب رؤية لتنويع مصادر الاقتصاد
3- انشغال المانحين في الحروب والمشاكل الدائرة
4- سوء التسيير
5- انتشار الفساد
وقد كشفت هذه الأزمة عن أنه لم يكن هناك تخطيط اقتصادي وطني يضع في الحسبان ضرورة الاحتياط لما هو قادم أمام حالة تقلب الأسعار عالميا، كما أنها تعكس الاعتماد على العقلية التجارية دون توجيه بعض العائدات لإقامة مصانع ومنشآت وطنية، ودون تطوير المواد الاقتصادية المتجددة (الزراعة، الثروة الحيوانية...).
رابعا: المجال الجيوستراتيجي
وتضمن الأسئلة التالية: ما خطر الأوضاع في منطقة الساحل على البلد وخاصة ما يتعلق بشبكات الإرهاب والمخدرات؟ وما هو تأثير التحولات الديمقراطية في إفريقيا على البلد وخاصة موضوع تجديد المأموريات؟ وما مستقبل الصراعات العربية الناتجة عن ما يسمى الربيع العربي؟ وما مستقبل قضيتي أزواد والصحراء الغربية؟
رأى المشاركون في الورشات أن موريتانيا محاطة بمخاطر كبيرة؛ فعلى صعيد المحيط الإقليمي تواجه من جهة منطقة أزواد والفضاء الصحراوي بشكل عام تهديدات أمنية متصاعدة، بحكم ظاهرة تمدد الجماعات الإسلامية المسلحة نحو دول الساحل الأفريقي. وبالتالي فتصاعد نشاط هذه الجماعات ينعكس بشكل مباشر على موريتانيا.
أحد المشاركين أشار إلى أن القاعدة في الشمال المالي لم تمت رغم الحرب الأخيرة، بل هي في تنام مستمر. أيضا فأزواد بما هو فضاء مفتوح على الأراضي الليبية عبر الحدود الجزائرية يشكل تهديدا أمنيا ماثلا، خصوصا مع استقطاب ليبيا لتنظيم الدولة الإسلامية الذي استطاع أن يستغل حالة الفوضى ويخلق رقما له كبيرا في المعادلة الأمنية بليبيا.
أما قضية الصحراء فرأى المشاركون أنه لا يمكن حلها بدون موريتانيا، على الرغم من أنها ليست الفاعل الأول في هذه القضية الآن، على العكس في أزواد فلموريتانيا فاعلية أكبر.
وعن مشكلة المخدرات يرى المشاركون أنها هي الأخرى تشكل خطرا متصاعدا حيث لها ارتباط بالاستقرار بالنسبة للمجتمع والنظام على حد سواء.
تمت الإشارة من قبل أحد المشاركين إلى مؤشرات تؤكد تستر النظام على بعض ملامح هذه التجارة من خلال التسويات مع أشخاص من المحيط النافذ في السلطة، كما أن هناك متهمين يتم الإفراج عنهم ويعفى عنهم بأوامر رئاسية؛ رغم أن بعضا من هؤلاء متورطون في ملفات كبرى وربما يكونون مطلوبين دوليا وهذا ما يضع سمعة البلاد في خطر.
الحل أمام هذه التحديات الأمنية والاستراتيجية حسب المشاركين في الورشات، يكمن في التركيز على تأمين الحدود؛ ورغم المصاعب في ذلك فالواقع يؤكد تزايد الحضور الأمني الموريتاني على الحدود الشرقية والشمالية منذ سنوات. هذا مع ضرورة تقوية الجبهة الداخلية وجعل المواطنين على مستوى من الوعي يحمي البلاد من الاضطرابات. أيضا من الضروري العمل على استيعاب الشباب الموريتاني وإقامة خطوات عملية لتجنب توجهه نحو الفكر المتشدد.
أحد المشاركين أشار إلى أن موريتانيا نشأت بما يشبه طريقة: "حادث السير"، لكن تبين لدول الجوار وللغرب أن بقاءها ووجودها كبلد مركزي يحمي حدودا ممتدة وبالتالي يحمي المنطقة، بات أمرا ذا أهمية كبيرة.
خاتمة:
جاء هذا الاستشراف ثمرة سلسلة ورشات تفكيرية نظمها المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، واستدعى لها عددا من السياسيين والباحثين والصحفيين لبلورة رؤية موسعة، يشارك فيها الجميع، للواقع السياسي والاجتماعي والجيوستراتيجي الراهن ومآلاته المتوقعة في غضون أفق سنة 2030. وإذ يقدم المركز هذا الاستشراف للطيف السياسي في السلطة والمعارضة وللنخب الثقافية والاجتماعية، فإنه يأمل أن يكون إضاءة تسهم في تنوير الرؤية العامة وتشكل مستندا للقوى المختلفة في بناء واتخاذ القرارات.